أولويات كيان العدو في المنطقة..
التقارب مع تركيا يجب أن تكون له حدود واضحة

ترجمة الهدهد
كانت الزيارات المقررة لرئيس حكومة العدو “بنيامين نتنياهو” إلى قبرص، حيث كان من المفترض أن تعقد القمة الثلاثية التاسعة مع رئيس وزراء اليونان ورئيس قبرص، وإلى تركيا، وهي أول زيارة من نوعها لرئيس حكومة للعدو منذ 15 عاما، تأجلت إلى سبتمبر 2023 بسبب حالته الصحية، ومع ذلك، فإن أهمية الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، بالنسبة للكيان، كساحة استراتيجية واقتصادية وسياسية، لم تتغير.
ومع كل العواقب المحتملة للحوار السياسي مع أردوغان، وهناك نقاط التقاء مهمة بين مصالح الكيان وتركيا، فإن ترتيب الأولويات يجب أن يكون واضحا، لا تحتاج “إسرائيل” إلى الاستجابة للضغوط التي تمارسها تركيا لبناء خط أنابيب غاز يصل إليها، وإلى جانب السعي إلى إيجاد حلول متفق عليها للمسألة القبرصية، وفيما يتعلق برسم الحدود البحرية، من المهم الوقوف إلى جانب المتطلبات الأساسية لقبرص و اليونان، التي يمكنها من بين أمور أخرى، أن توفر للكيان عمقًا استراتيجيًا في حالة الطوارئ، ومن المهم بشكل خاص التأكد من أنه في أي ترتيب سيتم الحفاظ على استقلال قرار قبرص فيما يتعلق بسياستها الخارجية.
الزيارات ومعانيها
لم يكن من قبيل الصدفة أن يكون “إيلي كوهين” أول وزير خارجية للكيان يزور اليونان بعد فوز كيرياكوس ميتسوتاكيس في الانتخابات ضيفا على وزير الخارجية الجديد جيورجوس إيراباتريس.
وقد اكتملت يهذا عملياً جولة سياسية في دول شرق البحر الأبيض المتوسط، خلقت على الأقل نظرياً استقراراً سياسياً، وإمكانية استكشاف مجالات جديدة للمناورة، في الكيان، أدت حكومة “بنيامين نتنياهو” السادسة اليمين الدستورية (29 ديسمبر 2022)، رغم أنها رغم الأغلبية البرلمانية المستقرة تتعرض لاضطرابات داخلية مستمرة؛ وفي قبرص، أدى وزير الخارجية السابق وأحد مهندسي العلاقة مع الكيان، نيكوس كريستودوليدس اليمين الدستورية ( 28 شباط/فبراير 2023) رئيساً للبلاد، وفي تركيا فاز رجب طيب أردوغان، الذي سيطر على السياسة التركية لعقدين من الزمن، أولا كرئيس للوزراء ثم كرئيس تنفيذي، بالجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية (28 مايو 2023)، وأدى اليمين لولاية ثالثة كرئيس (3 يونيو).، في حين أن الائتلاف الذي يقوده حزبه – حزب العدالة والتنمية “وحزب العدالة والتقدم” – يتمتع أيضًا بأغلبية في البرلمان.
ويمكن أيضًا أن يضاف إلى هذه القائمة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، الذي لم يكن بحاجة إلى أكثر من لفتات خارجية لإجراءات ديمقراطية، على ما يبدو، لترسيخ حكمه.
وتحت قيادة رجال دولة ذوي خبرة هناك بالفعل إمكانيات جديدة للحوار، بما في ذلك بين تركيا واليونان، وتبذل المحاولات مرة أخرى للوساطة وإيجاد الحلول، وربما أيضاً فيما يتعلق بالمسألة القبرصية، على الرغم من تعقيداتها ورواسب الشكوك التي تعمقت على مر السنين. لكن كل هذا، إلى جانب توثيق أواصر القرب القائمة وترجمتها إلى لغة عمل في مجالات متنوعة، بدءاً من التدريبات العسكرية وانتهاءً بترتيبات تصدير الطاقة.
وهكذا، فإن زيارة “كوهين” إلى اليونان (6 يوليو 2023) عكست الأهمية التي يوليها البلدان لمجموعة القوى التي تتشكل وتنمو في هذه المنطقة، كما أعطت زيارة ميتسوتاكيس إلى القاهرة في بداية أغسطس تعبيرًا عن ترتيب مماثل للأولويات، بما في ذلك تعزيز مجموعة القوى المجسدة في “منتدى غاز شرق البحر الأبيض المتوسط” (EMGF).
في السياق “الإسرائيلي” اليوناني، فإن الرؤية المشتركة للتهديدات والفرص، والقيمة والقرب الثقافي، وآفاق التعاون في مجال الطاقة والاقتصاد معًا تخلق “جسرًا فوق البحر الأبيض المتوسط”.
وتشارك “إسرائيل” بشكل مكثف في تعزيز القدرات العسكرية لليونان، مع التركيز على تدريب الطيارين، لقد أصبح “الإسرائيليون” جزءًا كبيرًا من السياح في اليونان والمستثمرين في قبرص، وعلى المستوى السياسي، تدعم “إسرائيل” بقوة الموقف المتفق عليه بين مصر واليونان بشأن حدود المياه الاقتصادية في شرق البحر المتوسط، على عكس الخط الذي رسمته تركيا و”حكومة الوفاق” [المثيرة للجدل] في غرب ليبيا.
وفي المستقبل، من المتوقع أن تصبح اليونان، إن لم تكن مركزاً، فعلى الأقل طريق إمداد بالطاقة من شرق البحر الأبيض المتوسط إلى أوروبا، في هذه الأثناء، تحتاج إسرائيل وتستطيع طمأنة اليونان وقبرص بأنه لن يتم التوصل إلى اتفاقات مع أردوغان تتعارض مع مصالحهما.
ماذا سيكون على أجندة “نتنياهو” في زيارته لتركيا؟
إن التلميحات والضغوط المتكررة من أردوغان وحكومته، والتي تهدف إلى إقناع الكيان بتصدير الغاز من أصولها في شرق البحر الأبيض المتوسط عبر خط أنابيب إلى تركيا، وبالتالي مساعدتها على أن تصبح مركزًا رئيسيا للطاقة تجاه أوروبا لن تنجح في النهاية. وأي مشروع من هذا النوع لا بد أن يدخل في صراع فوري بخصوص استخدام المياه الاقتصادية لقبرص، غير ذلك، لا مصلحة للكيان الإسرائيلي في الارتباط بعلاقة دائمة مع القيادة التركية التي أثبتت بالفعل أنها قادرة على تغيير توجهها فجأة، فالرواسب التي خلفتها مظاهر العداء أثناء الأزمات، وخاصة أثناء المواجهة مع حماس، لا تزال قائمة، كل هذا، كما هو موضح أدناه، عندما تكون هناك بدائل تتوافق أيضاً مع المصلحة التركية.
من نقطة البداية هذه، كيف ستتشكل أجندة “نتنياهو” في أنقرة، إذا كان يرفض بالفعل، ولو بأدب، محاولة أردوغان انتزاع التزام “إسرائيلي” بقضية الغاز؟ هناك، في ظل الظروف الحالية سلسلة من القضايا الأخرى التي يمكن للبلدين، على الرغم من الخلافات المريرة في السنوات الأخيرة، أن يصلا فيها إلى توافق، حتى من دون التزام “إسرائيل” بمشاريع غير ضرورية أو التضحية بالشراكة الاستراتيجية مع اليونان وقبرص.
وبالتالي، فإن حجم التجارة (الذي يميل بشكل حاد لصالح الواردات من تركيا) آخذ في الازدياد – 5.8 مليارات واردات من تركيا، مقابل 1.9 مليار صادرات “إسرائيلية” إليها، في عام 2021؛ 6 مليارات واردات و2.5 مليار صادرات عام 2022 – رغم الصعوبات التي يواجهها الاقتصاد التركي الذي يعاني من التضخم، قد تقوم “إسرائيل” بتوسيع وارداتها الزراعية من تركيا كجزء من جهودها لخفض تكاليف المعيشة.
إن خطورة الوضع الاقتصادي في العام الماضي هددت بتقويض مكانة أردوغان السياسية، رغم أنه تمكن في النهاية من الخروج من الصعوبات التي يواجهها، والتي لعبت دورا مركزيا في قراره بتغيير الاتجاه في سياسته الإقليمية والسعي لتحقيق المصالحة (وتجنيد الاستثمارات) مع الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، وضمن ذلك أيضًا مع مصر و”إسرائيل”.
على المستوى الاستراتيجي، كما أوضحت زيارة وزير جيش العدو “يوآف غالانت” إلى باكو في يوليو/تموز 2023، فإن لدى كل من “إسرائيل” وتركيا مصلحة واضحة في تعزيز قوة أذربيجان، من بين أمور أخرى في مواجهة التوترات المتزايدة بينها وبين إيران، إلى جانب وضعها كحليف وثيق لتركيا، حافظت أذربيجان على مر السنين على علاقات أمنية واستخباراتية وثيقة مع إسرائيل، وافتتحت مؤخرًا أيضًا سفارة في البلاد.
ويظل موقف تركيا بشأن القضية الإيرانية ككل، مع التركيز على المشروع النووي، غامضاً: ففي الماضي، صوتت تركيا والبرازيل فقط في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة ضد العقوبات (القرار رقم 1929 لعام 2010) على إيران؛ ومع ذلك، سواء في سوريا، حيث تدعم تركيا المتمردين وإيران تقوي الأسد – وفي المسألة الأذرية، تقف تركيا وإيران على طرفي نقيض، حتى أن الأتراك تحركوا في عدة حالات في العام الماضي لإحباط هجمات إيرانية، محاولات (من بين أمور أخرى ضد أهداف إسرائيلية) على أراضيها.
أما بالنسبة لمستقبل “النادي” المتوسطي، وبناء هويته ومؤسساته، فقد استخدمت “إسرائيل” واليونان وقبرص مراراً لغة حذرة في التلميح إلى إمكانية توسيع دائرة الشراكات مما يترك الباب مفتوحا أمام أي شخص ينطبق عليه التعريف المقبول حاليا للبلدان المتشابهة في التفكير” و في الآراء او وجهات النظر الاساسية، وفي الوقت الذي كان يتصرف فيه أردوغان بطريقة “عثمانية جديدة” واضحة في حوض البحر الأبيض المتوسط بعيداً جداً عن تلبية هذا التعريف، ولم تتم دعوته حتى إلى المؤتمرات (الافتراضية) للقادة الديمقراطيين التي بادرت إليها الولايات المتحدة، كما أن الشراكة الائتلافية مع اليمين القومي، وحزب الحركة القومية، و”الذئاب الرمادية”، التي ترى أن نصف بحر إيجه وجزء كبير من الجزر اليونانية يجب أن يعود إلى السيادة التركية، هي أيضاً مدعاة للقلق.
ومع ذلك، فإن تحركات أردوغان الأخيرة، بما في ذلك الموافقة على توسيع الناتو والإشارة إلى الاستعداد للتفاوض مع اليونان يمكن أن ترسم مسارًا مختلفًا، ويمكن لـ”إسرائيل” أن تساعد في هذا الأمر، وفي رسم مسار لتوسيع التكامل الإقليمي، الأمر الذي سيؤدي أيضاً إلى تحسين مكانة تركيا في واشنطن لكن الشرط لذلك هو التواصل مع اليونان وقبرص وتنسيق المواقف والوقوف كجبهة واحدة ضمن جهود التسوية مع تركيا.
خيارات تصدير الغاز وتبعاتها
وبالإضافة إلى الصادرات الحالية إلى الأردن ومصر، وهو أمر مهم في حد ذاته، سواء لأسباب تتعلق بالأمن القومي أو لضمان أسواقاً خارجية مستقرة، فإن ما ينبغي لـ”إسرائيل” أن تسعى جاهدة لتحقيقه في شرق البحر الأبيض المتوسط (وليس هناك فقط) هو الحفاظ على أعظم درجة من المرونة في اتخاذ القرار، خطوط أنابيب الغاز، غير على أسعارها الباهظة، ليست الحل في الجانب الاستراتيجي أيضًا، الجواب يتجسد في منشآت التسييل سواء على أرض قبرص أو في منشأة بحرية – FLNG، والتي ستسمح بالتصدير عن طريق السفن إلى أي وجهة بها منشأة التحويل إلى غاز.
والخيار الآخر هو بناء محطة كهرباء في قبرص وربطها، إلى جانب خطوط الكهرباء “الإسرائيلية” والمصرية، بالشبكة الأوروبية، كل هذه حلول تتطلب التعاون الوثيق مع قبرص واليونان، وستكون هناك حاجة أيضا إلى موقف حازم فيما يتعلق بدعم “إسرائيل”، كما ذكرنا، للموقف اليوناني المصري بشأن موضوع حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة.
وهذا لا يعني أن تركيا ستبقى بالضرورة خارج اللعبة، زيادة قدرات التسييل (الغاز الطبيعي المسال أو FLNG) قد تمكن من توريد الغاز “الإسرائيلي” أو المصري أو حتى القبرصي إلى تركيا عن طريق السفن وإعادة الاتصال بمنشآت التغويز، ولكن بهذه الطريقة سيتم الحفاظ على المرونة وسيتم تجنب حالة من الاعتماد المتبادل الصارم.
أهمية قبرص واليونان بالنسبة للعمق الاستراتيجي للكيان الإسرائيلي
أحد الأسباب وراء عمل “إسرائيل” على الحفاظ على التعاون وتأسيسه وتوسيعه في المثلث “الإسرائيلي” القبرصي اليوناني يتعلق بالدور الذي قد يُطلب من شركائها في شرق البحر الأبيض المتوسط أن يلعبوه إذا وجدت “إسرائيل” نفسها متورطة في مواجهة واسعة النطاق في الشمال.. وهذا احتمال يصبح أكثر ترجيحاً في ظل استفزازات حزب الله مؤخراً، وقد يترافق أيضاً مع إطلاق نار من غزة، وفي ضوء حجم الترسانة الموجودة في أيدي حزب الله (وحماس)، فإن موانئ الكيان البحرية والجوية قد تكون مهددة بمستوى من شأنه أن يردع شركات نقل بحري وجوي اجنبية من القدوم.
في هذا النوع من السيناريوهات، فإن الشركات “الإسرائيلية” فقط، التي يسمح هيكل الأسهم فيها سيطرة حكومية في حالات الطوارئ، مثل شركة النقل البحري “زيم” و”إلعال”، هي التي ستستمر في الحفاظ على شريان الحياة اللوجستي للكيان، وأقرب قواعد الانطلاق التي يمكن لهذه الشركات الاعتماد عليها ستكون في موانئ قبرص واليونان، في ظل هذه الظروف، لن يكون من الممكن الثقة بتركيا أو بشركاء السلام من العرب.
تجدر الإشارة إلى أن كبار المسؤولين القبارصة رأوا أنه من المناسب ذكر مسألة “العمق الاستراتيجي” للكيان في إطار تصريحاتهم في المؤتمر السنوي للمنتدى “الإسرائيلي” اليوناني (الذي عقد هذه المرة في نيقوسيا، 19-21 يونيو 2023)، التي أسستها منظمة بني بريت، وجامعة نيقوسيا، ومعهد IDIS اليوناني. وينضم هذا الاعتبار إلى الفوائد التي يجنيها الجيش الإسرائيلي من تدريب قوات الكوماندوز لديه في مناورات واسعة النطاق في جبال ترودوس، في السنوات الأخيرة، بخطط وأوصاف تتوافق مع القتال في لبنان.
ومن هنا تأتي أهمية أن تحافظ “إسرائيل” على استقلال قبرص في اتخاذ القرار في مجالي الأمن والشؤون الخارجية، دون التهديد باستخدام الفيتو من جانب تركيا (طرحت فكرة الفيتو المتبادل آنذاك على يد الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان، في إطار محاولات الوساطة)، وحتى لو تم استئناف التقدم نحو التوصل إلى تسوية دائمة متفق عليها تسمح بالمصالحة والتعاون بين شطري الجزيرة، وهو تطور ينبغي لـ”إسرائيل” والعديد من الدول الأخرى في المنطقة أن ترحب به بحرارة، فلابد من الحفاظ على عنصر حرية القرار هذا.
معهد القدس للاستراتيجية والأمن/ اللواء (المتقاعد) د.عيران ليرمان
Facebook Comments