العراق بين إيران والولايات المتحدة.. السعي إلى التوازن

 ترجمة الهدهد
يدفع رئيس الحكومة العراقية محمد السوداني، الذي يتولى منصبه منذ نحو أربعة أشهر عن المعسكر الشيعي المؤيد لإيران (“الإطار التنسيقي”)، نحو سياسة خارجية لا تنسجم مع الخط الحازم لقادة الميليشيات الشيعية المؤيدة لإيران تجاه الولايات المتحدة، وبخاصة تجاه تدخل القوات الأمريكية في العراق والتي تدعو الميليشيات إلى طردها بل ونفذت عمليات ضدها.
بعد وقت قصير من تسلمه مهام منصبه، أقر السوداني في رأس جدول أعمال حكومته مهمة مكافحة الفساد، ومشاكل الأمن (وفي مركزها القتال ضد الخلايا الإرهابية لداعش)، وإعادة بناء البنى التحتية المدنية المتعطلة في أرجاء العراق، مع التشديد على شبكتي الكهرباء والمياه.
في المجال الخارجي، أوضح السوداني بأنه من أجل جعل العراق دولة مستقرة تؤدي مهامها، لا يمكنها أن تسمح لنفسها بأن تكون جزءًا من أحد المعسكرين الخصمين في المنطقة أو تشكل ساحة صراع إقليمية أو أن تقطع العلاقات مع الولايات المتحدة.
وعمل السوداني على تحقيق هذه الأهداف السياسية، داخليا وخارجيا فور تسلمه مهام منصبه. في البداية، اتخذ خطوات للسيطرة على الأموال التي سُلبت من الدولة عقب الفساد السلطوي، وإدارة إجراءات قضائية ضد المتورطين في الفساد في عهد الحكومة السابقة.
وفي السياق السياسي – الأمني، لم يتردد السوداني في أن يضمن دعم حكومته للتواجد الأمريكي في أراضي الدولة، لغرض الحرب المشتركة ضد تنظيم داعش ناهيك عن أن هذا الكفاح يتعارض وموقف الميليشيات المشاركة في ائتلاف السلطة.
في المقابلات التي أجراها مع وسائل الإعلام المحلية والدولية أطلق السوداني إشارات طمأنة للولايات المتحدة في أن تواجد قواتها لا يزال ضروريا لمكافحة الإرهاب، وفي زيارة وزير الخارجية فؤاد حسين إلى الولايات المتحدة عمل على بلورة تفاهمات تسمح برفع العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على بنوك عراقية بسبب تهريب الأموال إلى إيران ودول أخرى، ويفترض بهذه التفاهمات أن تساعد العراق على التصدي للأزمة الاقتصادية المتفاقمة بسبب انخفاض قيمة الدينار العراقي طالما كانت العقوبات الأمريكية تمس بتدفق الدولارات إلى العراق.
وأضح أنه بعد أن التقى السوداني بكبار مسؤولي النظام الإيراني في طهران في بداية ولايته، فهم أن إدارة الدولة تتطلب منه أن يُحافظ أيضا على استقرار العلاقات مع الولايات المتحدة، ضمن أمور أخرى عقب الرسوخ الاقتصادي للعملة الأمريكية في الاقتصاد العراقي، وعليه، فإن ما يميز حكومته عن المواقف المتشددة لإيران والميليشيات المؤيدة لها، بالنسبة للتواجد الأمريكي بالعراق بل ويشجع الولايات المتحدة على إبقاء قواتها هناك لأهميتها للأمن العراقي، ومد اليد لدول غربية عديدة وذلك أساسا لأجل جلب الاستثمارات الاقتصادية إلى الدولة.
في السياق الإيراني، يواصل السوداني سياسة أسلافه في المنصب، فإلى جانب الرغبة في تمديد التواجد الأمريكي في الدولة يواصل السوداني الحفاظ أيضا على علاقات طيبة مع القيادة الإيرانية لأجل تبديد كل تخوف في طهران من هذه السياسة، وزار مؤخرا بغداد أمينُ عام المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني الأدميرال علي سمحاني ووقع اتفاقًا أمنيًا بين الدولتين، على هذه الخلفية ليس مفاجئا أن سارع العراق للثناء على الاتفاق الذي تحقق مؤخرا بين إيران والسعودية، والذي كان العراق الوسيط المركزي للتوصل إليه حتى سلمت قيادة المفاوضات إلى الصين، هذا الاتفاق يخدم مصلحة العراق العميقة في ألا يتحول بنفسه إلى ساحة صدام بين إيران والسعودية.
تصريحات السوداني وخطواته السياسية تجاه إيران، الولايات المتحدة، العالم العربي وتركيا، تدل على جهوده للتقليل من الآثار السلبية للخصومات والنزاعات الإقليمية على العراق، وتجد سياسة السوداني تعبيرها في حوار سياسي وأمني متواصل مع إيران ومع الولايات المتحدة، وفي توثيق العلاقات الاقتصادية مع دول الخليج العربية ومحاولات بلورة تفاهمات مع تركيا في موضوع تقاسم مصادر المياه الطبيعية بين الدولتين وفي المسألة الكردية، بالتوازي، فإن تركيزه على جهود استقرار العراق والسماح له بتنمية اقتصادية مدنية يستهدف نيله ثقة الجمهور وثقة القوى السياسية غير الموالية لإيران.
ويشار إلى أن الجمهور العراقي لم يختر هذه الحكومة للحكم في الانتخابات الأخيرة بل قبل بها كأهون الشرين مع انسحاب المرشح المنافس صاحب الفرص الأكبر لتشكيل الحكومة مقتدى الصدر. وبالتالي واضح للسوداني بأنه إذا ما تفاقم الوضع الأمني والاقتصادي في العراق، فإن الحكومة برئاسته والتي شكلها المعسكر المؤيد لإيران من شأنها أن تسحب الثقة التي منحتها إياها الكتل البرلمانية.
فالخصوم السياسيون الطبيعيون – وعلى رأسهم مقتدى الصدر – من شأنهم أن يروا في هذه كلحظة مناسبة لمهاجمته، إن لم يكن في البرلمان ففي الشوارع، وهذا ليس مجرد سيناريو افتراضي إذا ما أخذنا بالاعتبار الاحتجاج الذي نشب في العراق في 2019 على خلفية اجتماعية – اقتصادية والذي عبر عن مشاعر مناهضة لإيران حتى في أوساط الشباب الشيعي وترافق مع تدهور في الوضع الاجتماعي الاقتصادي في السنوات التالية.
ومع ذلك، يبدو أن السوداني يعترف بقيود قوة الدولة العراقية في الوضع الحالي: دولة تعززت فيها الميليشيات المؤيدة لإيران في أراضيها تحت رعاية التدخل الإيراني بل إن الحكومة تعتمد الآن على دعمها الائتلافي، وعليه فان السوداني يعمل على إرضائها بالامتيازات المؤسساتية – سواء بتعيين ممثليها في مناصب حكومية أو بشكل غير مسبوق في العراق، من خلال إقامة شركة حكومية تديرها الميليشيات الأكبر “الحشد الشعبي “وشركة “المهندس” (التي تحمل اسم عبد المهدي المهندس قائد الحشد الشعبي الذي اغتالته الولايات المتحدة إلى جانب قاسم سليماني) ويفترض أن تدير مشاريع بنى تحتية إقليمية تشكل مصدر دخل للميليشيات، على غرار نموذج شركة خاتم النبيين القائمة في الحرس الثوري التابع للنظام الإيراني.
ومع أن الميليشيات من جهتها لا تعبر عن تأييدها للتفاهمات التي حققها السوداني مع الولايات المتحدة بل وبعضها تعلن عن أنها غير ملتزمة بسياسة الحكومة، إلا أنه من جهة أخرى طرأ في الأشهر الأخيرة انخفاض واضح في عدد الهجمات التي تشنها الميليشيات المؤيدة لإيران ضد القوات الأمريكية في الأراضي العراقية، أما بالنسبة لنهج الإدارة الأمريكية تجاه المسألة العراقية، فيبدو أن لا جديد تحت الشمس.
صحيح أن ال‘دارة تركز على مسائل متنوعة أخرى وعلى رأسها المعركة في أوكرانيا والتوتر المتزايد مع الصين، وهذه تدحرج في سلم الأهمية قضايا الشرق الأوسط عامة والعراق خاصة، لكن لا تزال اللقاءات التي عقدت بين المسؤولين الأمريكيين وبين السوداني وزيارة وزير الدفاع لويد اوستن إلى العراق مؤخرا تشير إلى الأهمية التي تنظر فيها الإدارة في الحفاظ على استقرار العراق.
يبدو أن الإدارة الأمريكية مستعدة لأن تدعم حكومة السوداني رغم كونها مدعومة من الميليشيات الشيعية وأساسا كي تمنع طلبا عراقيا من القوات الأمريكية بالانسحاب من الدولة تماما، وذلك لأن الإدارة تولي أهمية كبيرة في تدشين منظمات الأمن العراقية بهدف منع عودة داعش إلى الساحة العراقية، و لهذا الغرض فإن موظفي الإدارة الأمريكية لا يزالوا مستعدين لأن يبدون مرونة نسبية في كل ما يتعلق بالتسهيلات للحكومة العراقية التي تسمح لها بمواصلة إدارة علاقات اقتصادية مع إيران بما في ذلك استيراد النفط والغاز منها.
ولا يزال التحدي الأهم أمام الحكومة العراقية هو تواجد الميليشيات الشيعية في الدولة، ويزداد هذا التحدي في ضوء تزايد الهجمات من جانب تلك الميليشيات المدعومة من إيران ضد مصالح وقواعد أمريكية في سوريا، انتقاما على هجمات تتعرض لها هذه من جانب جهات مختلفة في الساحة السورية، ويدل التأخر في رد الإدارة على الهجمات ضدها حتى مهاجمتها لمنشآت الميليشيات المؤيدة لإيران في دير الزور في آذار 2023 على التخوف من أن هذه الرود من شـأنها أن يفتح “باب المشاكل” مما يؤدي إلى تصعيد خطير في العراق سيصعب على القوات الأمريكية أن تعطي جوابا له ويضعضع النظام السياسي والامني في الدولة.
من ناحية “إسرائيل” فإن سياسة السوداني هي مثابة “وردة ذات أشواك”. فقدرة الولايات المتحدة على مواصلة العمل عسكريا في العراق وممارسة نفوذها فيه، هي مصلحة “إسرائيلية” وسياسة حكومة السوداني تدفع بها قدما.
لكن ليس في ذلك ما يقلل من نشاط القوات المشاركة في المحور الشيعي بما في ذلك الحرس الثوري الإيراني والميليشيات المؤيدة لإيران، والتي تتعزز برعاية الحكومة التي تعتمد على مشاركة هذه الميليشيات وحصولها على مرابح اقتصادية لم يسبق أن كانت لها، فضلا عن ذلك فإن إجراءات حكومة السوداني حتى الآن لا تمنع حرية عمل الميليشيات وعمل إيران في منطقة الحدود بين العراق وسوريا – مثلما تشهد تقارير الصحافة الأجنبية التي عزت لـ”إسرائيل” في الأشهر الأخيرة عمليات إحباط لتهريب السلاح عبر معبر الحدود بين العراق وسوريا من خلال الهجمات الجوية.

Facebook Comments

زر الذهاب إلى الأعلى