أسرار جنين المدفونة منذ عام 1950:
جنين توقف تدفق قوات العدو إلى الضفة الغربية

ترجمة الهدهد
كتب ملحق يديعوت أحرونوت (7أيام) حول أكبر المعارك التي خاضتها جنين ضد عصابات العدو عند احتلال فلسطين عام 1948، وجاء في ملحق يديعوت (7 أيام):
“اليوم مدينة جنين مرادفة لعش من المقاتلين الفلسطينيين، لكن في الأيام الأولى لإسرائيل جنت شوارعها ثمناً باهظاً؛ 51 جندياً قتلوا من الكتيبة 21 والكتيبة 22 التابع للواء كرميئلي في عملية يتسحاق، التي كان هدفها احتلال جنين، والقضاء على كتائب الجيش العراقي وقوات الإنقاد التي كان العدو يخشى أن تحاصره من منطقة بيسان، وتركت جثثهم وراءهم في جنين، بعد ذلك بعامين، شارك ضابط اسمه نفتالي زعيرا في مهمة إعادتهم تحت اسم – المهمة المقدسة-، لتحديد مكان الجثث وإعادتها إلى مدفن في جبل هرتسل، حيث وجدت الجثث في كهف كتب عنها في تقارير سرية ويتم نشرها الآن لأول مرة وتقدم لمحة عن واحدة من أكثر المعارك دموية في تاريخ الكيان”.
اليوم مدينة جنين هي كلمة مرادفة لـ “عش الدبابير” الوحشي، لكن في الأيام الأولى لـ “إسرائيل” تكبدت في شوارعها ثمناً باهظاً: 51 مقاتلاً سقطوا في “عملية يتسحاق” وتركت جثثهم في الخلف.
بعد ذلك بعامين، شارك ضابط اسمه “نفتالي زعيرا” في المهمة المقدسة: تحديد مكان الجثث وإعادتها للدفن في “إسرائيل”، هو لم يتحدث قط عن الفظائع التي رآها في الكهف المليء بالجثث، لكنه كتب عنها ببلاغة في تقارير سرية.
سيتم نشرها الآن لأول مرة، وتقدم لمحة عن واحدة من أكثر المعارك دموية وأكثرها نسياناً في تاريخ الكيان.
لكي لا نخلق انطباعاً وغضباً بين سكان المدينة، ارتدينا كوفية وعقالاً كما هي الطريقة العربية، قبل دخول المدينة ومن فوق تلة صخرية بواسطة محراث تم اكتشاف جثتين وقمنا بجمعهما، ثم دخلنا إلى كهف به فتحة ضيقة، ووجدنا فيه كومة من العظام فيها عشرات الجثث، على الفور، نقلنا بعض العظام معنا إلى “إسرائيل”، وسيتم نقل الباقي في غضون يوماً أو يومين.
لم نقترب بعد من فحص وفرز الجثث والبحث عن علامات مميزة للتعرف عليها، بعد الفرز سنبلغكم.
أرسل هذا التقرير الملازم “نفتالي زعيرا”، الضابط الديني في اللواء التاسع إلى مقر اللواء في وقت ما في آذار / مارس 1950.
وقبل ذلك بوقت قصير غادر “زعيرا” والحاخام العسكري الرئيسي “شلومو غورين” مدينة جنين في شمال الضفة الغربية، التي كانت بالفعل في ذلك الوقت معقلاً للكراهية والبغضاء تجاه “إسرائيل” ومستوطنيها اليهود، كان معهم حقيبة من العظام وأجزاء من جثث.
هما كانا أول “إسرائيليين” يشاهدان بأم أعينهما عشرات الجثث لقتلى معركة جنين، منذ أن سقطوا في المعركة الدموية التي وقعت في مداخل المدينة قبل نحو عامين من ذلك خلال حرب الـ 48.
حتى لو كان “زعيرا”، الذي كان يبلغ حينها من العمر 40 عاماً، وأب لأربعة أطفال، قد تسرب إليه أي مشاعر نتيجة لما رأته عيناه في جنين، إلا أنه لم يذكر في التقرير الجاف المفصل الذي سلمه إلى قادته.
حتى لو كان استولى عليه الحزن، وحتى لو اختلط بالفرح لأداء المهمة الكبيرة المتمثلة في إعادة الأبناء إلى ديارهم، فإنه لم يجد طريقه إلى الصفحة، والتي بُعثت على عجل أيضاً إلى الشؤون الإدارية في القيادة الشمالية وقسم إحياء ذكرى الجندي في وزارة الجيش، ومع ذلك، يبدو أن “زعيرا”، هو رجل متواضع ولطيف قد تدفق لديه نوعاً من المشاعر.
إجمالاً، عملية جمع 51 قتيلاً من معركة جنين – نعم، 51 قتيلاً في معركة واحدة، جميعهم تركت جثثهم في الميدان – أنهت المرحلة الأولى من جهود “الجيش الإسرائيلي” الهائلة لجلب 5000 قتيل، بقوا في الميدان خلف الحدود لدفنهم في “إسرائيل”. كان لـ “زعيرا” أحد المؤسسين للحاخامية العسكرية ورجل الحاخام “غورين” للمهام الخاصة في مؤخرة العدو، الكثير من الأسهم في هذا الإنجاز.
“زعيرا” الذي التزم الصمت المدوي طوال حياته عندما سُئل عن دوره في حرب الـ48 والأيام التي تلت ذلك، ربما كان بخيلاً بالكلمات والمشاعر، لكن كان لديه وعي تاريخي عميق.
هذه هي الطريقة الوحيدة لشرح سبب احتفاظه بنسخة من هذه الرسالة المقتضبة معه، حتى يوم وفاته بعد 42 عاماً.
الرسالة، إلى جانب البرقيات الأخرى من عملية جمع جثث قتلى جنين ومئات الوثائق الأخرى التي جمعها زعيرة أثناء خدمته في الحاخامية العسكرية، كانت حتى وقت قريب في ثلاث مجلدات متداعية لم يطلع عليها أحد منذ أوائل الخمسينيات.
تم اكتشافها مؤخراً من قبل أفراد عائلة “زعيرا” في قبو منزله، وتم مسحها بالتعاون مع منظمة (لنعطي وجها للذين سقطوا).
إن الاطلاع على هذه الوثائق النادرة يقدم لمحة غير عادية ليس فقط عن مأساة معركة جنين – ربما أكثر المعارك فشلاً ونسياناً في تاريخ “الجيش الإسرائيلي” – ولكن أيضاً على الشخصية الفريدة لـ “زعيرا” ودوره المركزي في المهمة المقدسة في دفن قتلى حرب عام 48.
بمناسبة إحياء يوم ذكرى قتلى “القوات الإسرائيلية” المجهول مكان دفنهم، والذي جرى الأسبوع الماضي – وفي الأيام التي لا تزال فيها مدينة جنين وقتلى “الجيش الإسرائيلي” المفقودين يقلقون مستوطني الكيان يقدم ملحق “اليوم السابع “7 أيام” قصة قتلى معركة جنين، معظمهم اليوم مدفونون في مقبرة جماعية ضخمة على جبل “هرتسل” في القدس.
في نهاية أيار 1948 استقر الوضع على الجبهة الشمالية، وتم صد محاولات اجتياح القوات السورية واللبنانية لعمق الكيان، وفشلت قوة التدخل السريع العراقية أيضاً في محاولات السيطرة على أراض، واضطرت أخيراً إلى التمركز في شمال الضفة الغربية.
من الجهة الأخرى لـ “عيمك يزرعيل”، في جبال الناصرة والجليل، خيم أعضاء “جيش الإنقاذ” التابع لـ فوزي قاوقجي، في انتظار الفرصة السانحة، كان الشاغل الرئيسي لقادة “الجيش الإسرائيلي” في ذلك الوقت هو أن المقاتلين العرب على جانبي وادي “يزرعيل” سيحاولون الانضمام سوياً، وبالتالي قطع الوادي الاستراتيجي إلى قسمين ومنع الحركة اليهودية داخله.
كان من الممكن أن تؤدي مثل هذه الخطوة إلى إحداث دمار في الجزء الشمالي بأكمله من الكيان الذي يبلغ عمره أسبوعين.
لذلك انطلقت في 1 حزيران / يونيو “عملية يتسحاك لاحتلال جنين، المدينة الرئيسية في شمال الضفة الغربية، والنقطة التي كان من المفترض أن تنطلق منها قوة المشاة العراقية، والتي كانت في المنطقة بعدد لوائين وضمت أيضاً قوات مدرعة، وقوات المدافع وحتى عدد من الدبابات تم تكليف لواء “كرميلي” وكتيبتين قتاليتين، 21 و 22، بالجزء الأكبر من المهمة، والتي كانت تتألف من سكان حيفا والكريات. كما انضمت الكتيبة 13 من لواء غولاني إلى العملية.
كان دور الكتيبة 13 هو الاستيلاء على مناطق سيطرة على الطريق المؤدي إلى جنين، وبالتالي السماح للكتيبتين 21 و22 بالمرور والتموضع على سلسلتي الجبال التي تسيطر على المدينة من الشرق والغرب.
في وقت الهجوم نفسه على جنين، كان من المفترض أن تضايق قوات “الجيش الإسرائيلي” الأخرى الجيش العراقي والمجموعات الفدائية المحلية، بعمليات حرف انتباه في منطقة طولكرم، الواقعة على الجانب الآخر من منطقة القتال، وكان الهدف من ذلك إعاقة القوات العربية في المنطقة من إرسال تعزيزات إلى جنين.
كانت المرحلة الأولى من العملية ناجحة، ولكن بعد ذلك بدأت المشاكل في الظهور
في صباح يوم 3 يونيو، اتضح أن الكتيبة 21 فقط هي التي تمكنت من الوصول إلى وجهتها في الوقت المحدد، بينما تكافح بقية القوات لإكمال مهمتها.
تم اكتشاف الكتيبة التي صعب عليها التحصن على المنحدرات الوعرة للتلال المتجهة نحو جنين، عندما بزغ فجر اليوم تبين أن الكتيبة بدون قوات الاحتياط وحرف الانتباه، تُركت وحيدة في مواجهة المدافع العراقية وقذائف الهاون التي كانت موجودة في الوادي من الأسفل.
وطوال النهار سقطت القنابل على رؤوس مقاتلي الكتيبة 21 وعلى الصخور المحيطة بهم.
سقطت إحدى القذائف على مقر الكتيبة، ما أدى إلى مقتل نائب قائد الكتيبة “شراغا مستويليشكار” وإصابة قائد الكتيبة، ونشر الفوضى على جميع المستويات القيادية الأقل منهم، رغم ذلك استمر المقاتلون في التمسك بأماكنهم والقتال -وقبل كل شيء الاختباء-، واستغل المقاتلون العرب هذا الوضع، فشرعوا في تضييق النطاق باتجاههم وتسلق التلة التي تعرضت للقصف.
في المساء، وبعد ورود هذه الأنباء المخيفة من الجبهة، بعث قائد اللواء “موشيه كرمل” برسالة إلى رئيس قسم العمليات “يغئال يادين”: بأن الوضع في جنين لم يحسم بعدوان هناك تدور معارك ضارية ووحشية على مناطق السيطرة وفي المدينة.
“وبحسب التقديرات، لدينا حوالي 150 ضحية بين قتيل وجريح (فيما بعد اتضح أن التقديرات المتعلقة بعدد القتلى كانت مبالغاً فيها)، إصابات خطيرة وطفيفة وعدد من الأسرى، العدو مستمر في استدعاء التعزيزات وسيكون من المستحيل الصمود في جنين”.
توسل “كرميل” إلى “يادين” لشن هجوم حرف انتباه أو تشتيت انتباه في طولكرم، كما كان مخططاً مسبقاً، “لا يمكننا احتلال طولكرم فقط سنناوشهم الليلة.. فكر، قرر، نفذ وأعلمني هكذا كان رد “يادين”، مع عدم وجود خيار، أمر “كارميل” بالانسحاب.
“حاغاي روبنشتاين” 93 عاماً، آخر مقاتلي الكتيبة 21 الذين شاركوا في المعركة ولا يزال على قيد الحياة، لن ينسى أبداً الانسحاب الفوضوي من جنين.
هو من مواليد “نيشر”، وكان يبلغ من العمر 17 عاماً، خدم “روبنشتاين” في المعركة على مدفع رشاش.
يتذكر قائلاً: “كان لدي مدفع رشاش من نوع سبانداو، غنمناه من الجيش الألماني وكان لا يزال يحمل شعار النازية الصليب المعكوف، في البداية كنت ما زلت أطلق النار على الكتيبة العراقية التي كانت على بعد أربعة كيلومترات منا، لكن هذا لم يكن ذات قيمة، ومن ناحية أخرى هم أطلقوا النار علينا بمدافعهم، وحيث كنا على الجبل كان كل شيء صخري، لم يكن هناك مكاناً للحفر والاستلقاء، كل قذيفة سقطت تناثرت شظاياها وأسقطت قتلى وجرحى، وسقطت قذيفة على مقر الكتيبة وسقط نائب قائد الكتيبة وقائد كتيبتنا أصيب بالصدمة واختبأ في الكهف مثل طفل صغير”.
في وقت ما تلقى “روبنشتاين” رصاصة أصابت يده، كان مدفعه الرشاش معطلاً أيضاً، كما يتذكر “ثم جاء أحدهم وقال إن هناك أمراً بالانسحاب، بدأ الجميع بالفرار، قال لي قائد الفصيل أن أبق وأحمي الانسحاب، فجأة من مسافة نصف متر وقف عربي أمامي وصوب بندقيته نحوي، الرجل الثاني معي مع رشاشه الستن، قام بقتله”، في هذه المرحلة، ومثل كل من كان لا يزال قادراً على الوقوف على قدميه والهرب، ترك -روبنشتاين- أيضاً وراءه قتلى وجرحى – وفر بجلده، هذا لم يكن تراجعاً لقد كان هروباً، يعترف: “لقد هربنا من هناك”.
في الأيام التي تلت ذلك اتضحت أبعاد كارثة معركة جنين، لقد أدت حقيقة أن مقاتلي الكتيبة 21 تركوا إلى حد ما لوحدهم أمام التضاريس والتصميم الذي أظهرته القوات العربية، إلى سقوط قائمة طويلة من القتلى.
وعند تفقد الصفوف تبين أن 49 قتيلاً قد سقطوا، بينهم 45 من الكتيبة 21، وقتل جنديان آخران من جولاني في المعارك التي ستدور في المنطقة في الأيام التالية.
عندما سئل “روبنشتاين” لماذا ابتلعت معركة جنين بنتائجها الوحشية، في هاوية النسيان ولم تتجذر في الوعي العام، مثل “معركة اللطرون” على سبيل المثال؟
أجاب: “ببساطة لم يتبقَ مَن يتحدث عنها”.
لم تكن معركة جنين واحدة من أكثر المعارك دموية في تاريخ “الجيش الإسرائيلي” فحسب؛ فبالرغم من الفظاعة، وفي تناقض تام مع “الروح الإسرائيلية”، تُركت جميع جثث القتلى في أرض العدو.
بعد عام ونصف تم استدعاء “نفتالي زعيرا” لإعادة الجثث إلى الديار.
ولد زعيرا Zaira في عام 1910 لعائلة متدينة في “براتيسلافا”، عاصمة “سلوفاكيا” اليوم، ودرس في مدرسة دينية، عندما كان في سن المراهقة، جاء الناشط الصهيوني “مناحيم أوسيشكين”، الذي جمع التبرعات من أجل الاستيطان اليهودي في أرض فلسطين، خُطب وكلمات “أوسيشكين” أسرت الصبي “زعيرا” بسحر الصهيونية، وعلى الرغم من معارضة والده الشديدة، غادر منزله من أجل الانضمام إلى حركة شبابية خطط أعضاؤها للهجرة إلى فلسطين.
في عام 1930 أبحر إلى هناك واستقر في مزرعة “رودجز” بالقرب من “بيتح تكفا”، والتي كانت تهدف إلى تدريب الرواد الدينيين على الاستيطان الزراعي، باستثناء إحدى شقيقاته، التي هاجرت إلى فلسطين فيما بعد، لقي جميع أفراد الأسرة الآخرون حتفهم في “الهولوكوست”.
عندما تم تأسيس “الجيش الإسرائيلي” تجند “زعيرا” بشكل طبيعي للعمل كضابط ديني وثقافي في لواء غولاني، لم يكن مقاتلاً لأنه لم يكن عمره 20 عاماً عندما اندلعت الحرب، ما كان يعرفه هو الدين والثقافة، لأنه كان رجلاً كتب، وكانت هذه وظيفته في اللواء.
بعد وفاته في عام 1992، أخذ أفراد الأسرة متعلقات “زعيرا” من الشقة التي كان يعيش فيها في جفعتايم، تم العثور على حقيبة أدوات عسكرية في قبو، لم يكلف أحد عناء فتحها، وصلت حقيبة الأدوات هذه إلى منزل “زوهر” و”سارة” في “كفار هرئاه”، وبقيت هناك لما يقرب من 30 عاماً.
“منذ حوالي عامين كنت أقوم بترتيب الدواليب وقررت فتح حقيبة الأدوات، وفي الداخل وجدت الكثير من الأوراق” -تقول سارة-، قمت بسحب ثلاثة مجلدات تحتوي على صفحات متهالكة وملطخة ببقع، وتالفة لأنه مر عليها سنوات عديدة.
كانت مكتوبة بخط اليد أو مطبوعة على آلة كاتبة.
أعتقد أنه بسبب كونه شخصاً فقيرا جداً، ومتواضعاً جداً بحيث لا يستطيع التحدث عن نفسه، فقد احتفظ بكل شيء في قلبه، – قالت سارة-، لكن يبدو أنه ما زال يريد أن يترك وراءه شيئاً من سيرته العسكرية، في رأيي كان يأمل أن يتم اكتشاف هذه الوثائق بعد وفاته.
من بين الوثائق التي احتفظ بها “زعيرا” رسائل شخصية تلقاها من رئيس الأركان، وطلبات أرسلها إلى القيادة العامة لشراء كتب التوراه لجنود “الجولاني”، وتقارير مختلفة صاغها بلغته المختصرة والواضحة.
لكن الوثائق الأكثر إثارة للاهتمام التي تركها “زعيرا” وراءه تتعلق بدوره المركزي في تحديد مكان قتلى معركة جنين.
قراءتها تكشف عن قصة شجاعة وتصميم وحساسية، وقبل كل شيء التفاني الكبير لواحد من -أنبل أهداف- “الجيش الإسرائيلي”، عودة جميع الجنود إلى ديارهم، أحياء أو أمواتاً.
بانتهاء حرب 48 اتضح أن هناك نحو ألف قتيل “إسرائيلي” ما زالت جثثهم خلف خطوط العدو.
قام الحاخام العسكري الرئيسي “شلومو غورين” المخلص للتقاليد اليهودية، بالضغط على رئيس الوزراء “دافيد بن غوريون” ليصر في إطار اتفاقيات الهدنة على أنه يمكن إعادة هذه الجثث لتدفن في “إسرائيل”.
أثمر الضغط، وبعد توقيع الاتفاقيات، بدأ الحاخام “غورين” العمل، بشكل رئيسي مع سلطات المملكة الأردنية، لتحديد مواقع جثث قتلى “الجيش الإسرائيلي” على أراضيها.
كان “غورين” بالفعل شخصية ذات مكانة ونفوذ، لكنه احتاج إلى شخص يتحدث لغة العرب، كان “زعيرا”، الذي يتحدث اللغة العربية بطلاقة ومعرفة بالعادات الإسلامية، الرجل المثالي لهذه المهمة.
يقول الابن “زوهر”: “لقد استغل كل المعرفة التي كانت لديه، ولهذا السبب فقط سمحوا للحاخام غورين بالوصول إلى هؤلاء القتلى”، -وحول ذلك لم يقل لنا أبي كلمة واحدة-.
خلال عام 1950، تجول “غورن” و”زاعيرة” في أماكن مثل بيت عربة، و”اللطرون”، و”غوش عتصيون”، في بحث متواصل عن قتلى “الجيش الإسرائيلي “،عندما اصطحب الأردنيين والدهم إلى “غوش عتصيون”، عصبوا عينيه وقاموا بعدة جولات لإرباكه، لكنه تمكن من معرفة أنهم كانوا يبنون مطاراً في قلنديا “، -تقول الابنة إيلا-.
ومع ذلك، من بين جميع الأماكن التي زارها “زعيرا” والحاخام “غورين”، كانت جنين النواة الأقسى للكسر واللغز الأصعب للحل.
في كتابه “ليس بالسلاح ولا بالقوة” كتب الحاخام “يتسحاق مئير”، أحد مؤسسي الحاخامية العسكرية والذي انضم إلى بعض الحملات لاكتشاف أماكن المفقودين، أن “جنين كانت من أصعب الأماكن التي وصلت إليها الحاخامية العسكرية، كان السكان تحت تأثير المفتي الحاج أمين الحسيني، وكانوا يكرهون اليهود حتى الموت، المحادثات لم تساعد، والدنانير لم تساعد”.
وبحسب قوله: “أراد الحاخام غورن من زعيرا أن يرافقه إلى جنين وأماكن أخرى، لأنه كان يتحدث العربية الفصيحة، وكان ضليعاً في القرآن، وقد عرفوه وكانوا يحترمونه”.
بالرغم من أن “زعيرا” لم يخبر قط عن دوره في تحديد مكان القتلى اليهود في جنين، إلا أن الوثائق التي تركها تفعل ذلك بشكل جيد، في فبراير 1950، أرسل “زعيرا” وثيقة إلى إدارة المخابرات في منطقة “هعيمك” في القيادة الشمالية، تحتوي على ملخص لمحادثة أجراها مع عبد اللطيف القادر من سكان كفر قرع بوادي عارة.
وقال القادر في شهادته أمام “زعيرا” إنه في 4 آذار (مارس) 1949 كنت في جنين في الجيش العراقي في فوج الكرمل، وكان قائدي النقيب خليل قاسم، دوري كان مع “كوماندوز”، ومكاني بجانب مخفر الشرطة الغربي.
في ذلك التاريخ كانت هناك مناورة عسكرية في المعسكر جنوب غرب جنين، وهو معسكر بريطاني، الآن هو مخيم اللاجئين، بعد المناورة التي قام بها الضابط، أوضح وأظهر لنا مكاناً، شرق المخيم، على بعد 50 متراً، حيث دُفن خمسة أو ستة يهود.
“يوجد جنوب جنين تلة غربي طريق جنين نابلس، شرقي التلة يوجد كهف مفتوح، رأيت بأم عيني جثث 25 يهودياً في الداخل، لقد فهمت أيضاً أنه على مسافة معينة من الطريق الرئيسي، في مكان آخر، بين التلال، على التلة الشرقية في الجهة الغربية، يوجد كهف مفتوح، حيث دفن حوالي 100 يهودي، من بينهم فتاة، وفهمت أيضاً أن شرق جنين يوجد معسكر يسمى “هروبي”، على بعد 150 متراً شمال المخيم دفن نحو 150 يهودياً.
بناءً على هذه الشهادة، بالإضافة إلى المواد التي جمعها من الوحدات القتالية في “الجيش الإسرائيلي”، رسم “زعيرا” خريطة توضح الأماكن المحيطة بجنين وداخلها، والأماكن التي يحتمل وجود جثث قتلى من “الجيش الإسرائيلي” داخلها.
يتم تخزين هذه الخريطة في المجلدات التي قاموا بتخزينها في القبو، خلال جمع الأدلة، اتضح أن معظم جثث القتلى في المعركة تم نقلها إلى كهف بالقرب من جنين، وأن أخرى ألقي بها في بئر حفرت في “بستان فؤاد”، وهي حديقة كبيرة من الأشجار المثمرة داخل جنين نفسها.
في آذار (مارس) 1950، دخل “زعيرا” و”غورين” أخيراً إلى جنين للمرة الأولى، مرتدين زي العرب، حتى لا يثيرا أعمال شغب، لقد عثروا على جثتين مدفونتين في الحقل، بل وصلوا إلى الكهف الذي حُشر فيها معظم جثث القتلى، لكن لم يكن لديهم الوقت لاستخراج الجثث منها.
في المرة الثانية التي زاروا فيها خلف الخطوط انضم إليهم الحاخام “يتسحاق مئير”، وكتب في كتابه: “وضع الأردنيون سيارتهم الخاصة بهم تحت تصرفنا، وغطوا أعيننا بأغطية وأخذونا إلى الأماكن التي وضعنا علامة عليها على الخريطة”.
وفي وقت لاحق، التقى أعضاء الحاخامية العسكرية بمختار قرية برقين غربي جنين، الذي أوضح لهم أنه في “جولة القتال الثانية” بين العرب واليهود، سيدمر العرب “إسرائيل”، وكتب مئير عن ذلك “نجح زعيرا في إقناعه بكلمات ناعمة باللغة العربية بأن سيساعدهم على أي حال.
خلال زياراتهم الأولى إلى جنين في آذار/مارس، وبفضل قدرات “زعيرا”، تمكن الضابط الديني وأصدقائه في الحاخامية العسكرية من تحديد وتخليص خمس جثث لـ “جنود إسرائيليين” تم التعرف عليهم ودفنهم في مقبرة العفولة.
لكن في أبريل، عندما طلب أعضاء الحاخامية مواصلة أعمال جمع الجثث قوبلوا بالرفض.
وذكر أن الضابط في الفوج أوضح خلال الاجتماع أنه بسبب الصدامات والاشتباكات والاضطرابات العامة السائدة في جنين بسبب الانتخابات المقبلة، فإنه لن يتمكن من تحمل مسؤولية مرور “الضباط الإسرائيليين” في هذا الوضع.
“زعيرا” بعث برسالة لرؤسائه: “هناك استياء عام من احتمال أن يأتي اليهود ويخرجون عظام ضحاياهم، تم الاتفاق على الانتظار حتى ما بعد الانتخابات”.
بعد الانتخابات وهدوء الرياح، استمرت العمليات وتركزت على الكهف نفسه، حيث دُفن، حسب الأدلة، معظم قتلى المعركة، لم يتمكّن “زعيرا” و”غورن” أخيراً من الوصول إلى الكهف إلا في بداية شهر يونيو برفقة طبيب اللواء ومجموعة من شركة “كاديشا”، وأحصوا 55 جثة بالداخل أكثر مما توقعوا.
في التقرير الذي كتبه الطبيب بعد بضعة أيام، والذي تم حفظه أيضاً في مجلدات “زعيرا”، يتضح أن بعض الجثث في الكهف لم تكن لـ “قتلى الجيش الإسرائيلي”.
وفي النهاية، تم العثور على 44 جثة لجنود الاحتلال داخل الكهف وفي أماكن أخرى، بسبب صعوبة التعرف عليهم، تقرر دفنهم في مقبرة جماعية.
كما دفنت في القبر رفات مقاتلين اثنين من جولاني قتلا على مشارف جنين بعد أيام قليلة من “عملية يتسحاك”.
لا تزال المقبرة الجماعية لقتلى معركة جنين الـ 46 قائمة حتى اليوم في مقبرة جبل هرتسل العسكرية في القدس.
بعد الجنازة بثلاثة أيام، في 6 آب (أغسطس) 1950، كتب “زعيرا” وثيقة بعنوان “ملخص لعملية جمع قتلى الجيش الإسرائيلي خلف الحدود”.
ووصف فيها بإيجاز الجهود المبذولة لجمع رفات قتلى جنين، وأنهى الوثيقة بهذه الكلمات: “سيؤدي هذا إلى إنهاء عملية جمع قتلانا خلف الخطوط، لقد بدأناها منذ عام أو أكثر، بدءاً من حدود الأغوار واللطرون وغوش عتصيون وانتهاءً بجنين”.
المصدر: يديعوت أحرونوت
Facebook Comments