إضعاف السلطة الفلسطينية.. نحو الاستمرارية أم الانهيار أم التلاشي؟

ترجمة الهدهد

خلال العام الماضي، أظهرت السلطة الفلسطينية ضعفاً لم نشهده منذ الانتفاضة الثانية، عندما فقدت الحكومة في رام الله جزءاً كبيراً من قدراتها، ما خلف فراغات استغلت من قبل القوى المنافسة بقيادة حماس، تميز العقدان الأخيران باستعادة الحكم واستقرار نسيج الحياة بالضفة الغربية، بينما حافظت السلطة الفلسطينية بشكل صارم على التنسيق مع “إسرائيل” وتضييق الخطوات على حماس في المنطقة، كدرس من صدمة سيطرة الحركة على قطاع غزة في حزيران 2007.

ضعف السلطة الفلسطينية اليوم ينبع من مجموعة من الأسباب الخارجية والداخلية: فالأزمة المتصاعدة مع “إسرائيل” مصحوبة بزيادة التوترات الأمنية على الأرض، والعقوبات الاقتصادية من قبل “إسرائيل” (اقتطاع الأموال المخصصة لدعم عائلات الأسرى والمقاومين).

الصورة السلبية للحكومة في رام الله في نظر غالبية الجمهور الفلسطيني، ترجع لظواهر الفساد والمحسوبية وانعدام الديمقراطية، ويزايد القلق لدى كبار مسؤولي السلطة وأجهزتها الأمنية على خلفية اتهامهم بـ “التخابر” مع “إسرائيل” على خلفية التنسيق الأمني، وصعود قوة الجيل الفلسطيني الشاب الذي يعاني من العديد من المصاعب ويشعر بالنفور العميق تجاه السلطة الفلسطينية.

التعبير الأكثر لفتاً للنظر عن ضعف السلطة الفلسطينية، هو الفراغ الحكومي الذي تتطور في مراكز مختلفة في الضفة الغربية.

في هذا الإطار، تم خلق أرض خصبة مريحة “للإرهاب” والفوضى التي تقودها “المجموعات المسلحة المحلية”، إلى جانب حماس والجهاد الإسلامي اللتين تريا في الوضع الناشئ فرصة لتأسيس نفوذهم على الأرض وتعزيز النضال ضد “إسرائيل” في ساحات أخرى غير قطاع غزة (بدعم وتوجيه من مقرات قيادات التنظيمات في غزة).

وتتجلى هذه الظاهرة بكامل قوتها في جنين، ولا سيما في مخيم جنين للاجئين، الذي أصبح بؤرة رئيسية للمواجهات والاشتباكات بالضفة الغربية، ولكنها موجودة أيضاً في نابلس، -حيث يقول جيش العدو- بأنه نجح في القضاء على “عرين الأسود”، كما نجح مؤخراً في الكشف عن بنية تحتية عسكرية بمدينة أريحا تابعة لحماس بدأت بالفعل في تنفيذ هجمات.

في الوضع الحالي، مطلوب عودة حازمة وفورية لحكم السلطة الفلسطينية إلى الأماكن التي ضعفت فيها، ولضمان عدم انتشار “نموذج جنين” إلى أجزاء أخرى من الضفة الغربية.

من الناحية العملية، من الصعب تحقيق هذا الهدف في ظروف أزمة حادة مع “إسرائيل” وتصعيد أمني، تفتقر السلطة إلى الثقة بالنفس لفرض سيادتها على الرغم من الاحتكاك مع الجمهور المحلي (كما حدث في نابلس قبل حوالي ستة أشهر)، والعقاب الاقتصادي يضر بسير العمل اليومي ولا سيما دفع رواتب موظفي القطاع العام وعلى رأسهم عناصر الأجهزة الأمنية.

يثير ضعف السلطة الفلسطينية قلقاً عميقاً لدى الحكومة الأمريكية، وهو ما تم التعبير عنه في حث وزير الخارجية “بلينكن” أبو مازن في اجتماعهما الأخير لفرض القانون في منطقة جنين (وهو الأمر الذي أطلق عليه في الخطاب الفلسطيني خطة دايتون 2)، وفي وثيقة أعدتها وكالة المخابرات المركزية والتي تضمنت تحذيراً من اندلاع “انتفاضة ثالثة” في الضفة الغربية.

يبدو أن هناك قلقاً أيضاً في واشنطن بشأن استمرار القطيعة الأمنية ​​والسياسية بين “إسرائيل” والفلسطينيين وتداعيات العقوبات الاقتصادية ضد السلطة الفلسطينية، إلى جانب الاستياء من التلميحات التي أطلقها مؤخراً كبار المسؤولين الحكوميين، بقيادة الوزير “سموتريتش”، بشأن عدم وجود ضرورة لاستمرار وجود السلطة الفلسطينية في المستقبل.

إن الضعف المستمر للسلطة الفلسطينية، المصحوب بتصعيد أمني متزايد وربما حتى الإضرار بالاستقرار الاقتصادي في الضفة الغربية، قد يتسبب في تحدٍ حاد للواقع القائم في المنطقة منذ أكثر من عقدين.

ولا بد من التأكيد على أن السلطة الفلسطينية ليست موجودة اليوم بفضل أجندة سحرية أو تعاطف شعبي، ولكن بسبب تصورها في نظر الجمهور الفلسطيني ككيان ينجح في توفير نسيج الحياة والاستقرار الحكومي والاقتصادي، وبدون هذه ليس لها حق في الوجود من الداخل.

احتمال استمرار الواقع في صورته الحالية لفترة طويلة منخفض.

قد يكون من الممكن الحفاظ عليه (بصعوبة كبيرة) لعدة أشهر إلى ربما سنة، ولكن ليس لتثبيته كوضع دائم يوفر لـ “إسرائيل” الاستقرار الأمني، كما أن احتمالية المبادرات الفلسطينية مثل “تسليم المفاتيح” إلى “إسرائيل” منخفضة أيضاً، لأن معظم كبار المسؤولين الحكوميين في رام الله يتوقون إلى الحفاظ على بقاء السلطة الفلسطينية، ويدركون أن إلغاءها سيؤدي إلى أضرار جسيمة، ويخشون تكرار سوابق الانتفاضة الثانية أو سيطرة حماس على القطاع.

هناك سيناريوهان محتملان، هما الانهيار والوهن، أي الشلل الوظيفي للسلطة في مواجهة الصعوبات المالية في تحريك جميع الأجهزة الحكومية، وعلى وجه الخصوص لتلبية الاحتياجات العامة، وتشغيل البنى التحتية المدنية، ودفع الرواتب، وضمان النظام العام.

هذان السيناريوهان لن يتولدا بالضرورة من إعلانات أو خطط منتظمة، لكنهما مع ذلك قد يتجسدان:

  • أحدهما سريعاً وقد يكون مصحوباً بالفوضى وإلحاق الضرر بالمؤسسات ورموز النظام (ظاهرة شائعة في دول المنطقة خلال فترة الربيع الشمالي)،
  • والآخر بعد “احتضار بيروقراطي” يمكن أن تختلف شدته بين المناطق الجغرافية وبين مجالات المسؤولية.

بالنسبة لـ “إسرائيل”، فإن كلا السيناريوهين يكمن فيهما نتائج استراتيجية كبيرة، على المدى القريب، قد تظهر مخاطر أمنية على شكل زيادة في نطاق الإرهاب، بما في ذلك ما يتم الترويج له بمبادرة من نشطاء الأجهزة الأمنية الفلسطينية التي قد تضعف أو حتى تتفكك، وزيادة قوة حماس، على المدى الطويل – قد تتطور فراغات ستجر “إسرائيل” إلى القيام بمسؤولياتها المدنية تجاه الجمهور الفلسطيني، وفي الواقع تعيدها جزئياً أو كلياً إلى دور الحاكم العسكري كما كان موجوداً قبل إنشاء السلطة الفلسطينية، وإعادتها أقرب إلى واقع الدولة الواحدة حتى بدون رغبة وتخطيط.

يجب أن يكون الوضع غير المستقر للسلطة الفلسطينية في قلب صورة الوضع والسياسة التي يصوغها صناع القرار بشأن القضية الفلسطينية، على المدى القريب، من الضروري ضمان هدوء نسبي قبل شهر رمضان (22 آذار) وخلاله، ولهذا الغرض من الضروري إيجاد طرق لتجديد التنسيق الأمني ​​بشكل كامل وتخفيف الأزمة الشديدة مع السلطة الفلسطينية من خلال الاستعانة بالإدارة الأمريكية بالإضافة إلى اللاعبين العرب الرئيسيين وعلى رأسهم الأردن ومصر، بالإضافة إلى ذلك، يوصى بفحص تقليص / أو تأجيل العقوبة المالية على السلطة في المستقبل القريب وكذلك تجنب الإسراع في البناء الاستيطاني في الضفة الغربية، والذي من المرجح أن يقابل بردود فعل قوية من المجتمع الدولي كل هذا إلى جانب تصلب الموقف تجاه حماس، التي تقف وراء جزء كبير من “أعمال الإرهاب” والتحريض في الضفة والقدس وحتى في المجتمع العربي الفلسطيني في الداخل، بما في ذلك الحد من التسهيلات المدنية التي يتم الترويج لها تجاه قطاع غزة.

يجب على صناع القرار في نهاية المطاف مواجهة رؤيتين استراتيجيتين:

  • الرؤية الأولى: أن التركيز على التحركات الرمزية، بدءاً من المطاردة خلف الأعلام الفلسطينية وإقامة البؤر الاستيطانية التي تم تفكيكها بسرعة في الضفة الغربية وانتهاءً بالاقتحامات غير المنضبطة للمسجد الأقصى، يمنع تشكيل عمق واستراتيجية طويلة المدى للقضية الفلسطينية، والقدرة على توجيه الاهتمام والجهد نحو القضايا الوجودية الأخرى، وفي مقدمتها الملف النووي الإيراني.
  • الرؤية الثانية: – والأكثر أهمية – هي أنه على الرغم من الموقف المتحدي الذي تتخذه السلطة الفلسطينية تجاه “إسرائيل”، فإنها لا تزال في فئة أهون الشرين التي سيضع اختفاءها “إسرائيل” في مواجهة بدائل أسوأ، بدءاً من سيطرة حماس على الضفة الغربية وانتهاء بواقع دولة واحدة مع تهديد طابع “إسرائيل” “كدولة يهودية وديمقراطية”.

المصدر: معهد السياسات والاستراتيجيات/ ميخائيل ملشتاين

Facebook Comments

زر الذهاب إلى الأعلى