الصين و”إسرائيل” والفلسطينيون .. بين المستويين الاقتصادي والسياسي

ترجمة الهدهد
معهد أبحاث الأمن القومي
ظلت الصين تعلن دعمها للفلسطينيين منذ عقود، و”إسرائيل” من جانبها “تتجاهل بأناقة”، لكن في العامين الماضيين حدث تغيير، لقد كثفت الصين من تصريحاتها في “الموضوع الإسرائيلي الفلسطيني”، ومن جانبها، انضمت “إسرائيل” إلى الانتقادات العالمية للسياسة الصينية بشأن حقوق الإنسان، كيف سيؤثر ذلك على العلاقات بين تل أبيب وبكين؟

سياسة جديدة مع الصين

تُظهر الصين دعمها المطلق للفلسطينيين بل وتصعّد من تصريحاتها تجاه “إسرائيل”، لكن على الرغم من نمط تصويت بكين “الإشكالي” في مؤسسات الأمم المتحدة، فقد تبنت تل أبيب سياسة غض الطرف عن الجانب السياسي والتركيز على الإمكانات الاقتصادية التي تجلبها الصين معها، على أمل أنه مع توطيد العلاقات الاقتصادية بين الجانبين ستعمل الصين على تلطيف “سياستها المتشددة” تجاه “إسرائيل”، وقد خاب هذا الأمل حتى الآن، وبعد نشاط الصين “المناهض” “لإسرائيل” خلال عملية “حارس الأسوار”، يبدو أن “إسرائيل” قررت تبني سياسة أكثر يقظة تجاه الصين.

في المواجهات الأخيرة بين “إسرائيل” والفلسطينيين، واصلت الصين إظهار دعمها غير المشروط للجانب الفلسطيني، على سبيل المثال بعد اقتحام (في أوائل يناير) وزير الأمن الوطني إيتمار بن غفير المسجد الأقصى انضمت الصين إلى دولة الإمارات العربية المتحدة في المطالبة بإجراء مناقشة عاجلة في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وخلاله دعا السفير الصيني “إسرائيل”، على وجه الخصوص لوقف “التحريض والاستفزازات”، وقال وزير الخارجية الصيني الجديد تشين غنغ، أشياء مماثلة خلال زيارته للقاهرة (16 يناير).

في نهاية شهر كانون الثاني (يناير)، تعاونت الصين مرة أخرى مع الإمارات العربية المتحدة وفرنسا وطالبت بعقد اجتماع عاجل لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في أعقاب عملية “الجيش الإسرائيلي” في جنين، ولم تتغير ملامح الرد الصيني حتى بعد العمليات الأخيرة في القدس، وتضمنت تعبيرا عن الأسف لسقوط ضحايا مدنيين “في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني” وإدانة “الأعمال الإرهابية” وفي الوقت نفسه استخدام القوة المفرطة للرد عليها، و دعوة الأطراف و”إسرائيل” بشكل خاص للتحلي بالهدوء وضبط النفس؛ للحيلولة دون خروج الوضع عن السيطرة، وكرر المتحدث باسم وزارة الخارجية قول الصين إن “الصراع الإسرائيلي الفلسطيني” مستمر؛ لأن تطلعات الفلسطينيين المشروعة بدولة مستقلة لم تتحقق بعد.

الصين .. تاريخ من الدعم لفلسطين

في هذا السياق، يجب أن نتذكر أنه في نهاية ديسمبر 2022، صوتت الصين في جمعية الأمم المتحدة لصالح القرار الذي يدعو محكمة العدل الدولية في لاهاي إلى إصدار رأي استشاري حول عواقب الاحتلال “الإسرائيلي” الأراضي الفلسطينية.
هذا التصويت هو الأخير فقط في سلسلة من التصويتات المؤيدة للجانب الفلسطيني منذ أن حلت الصين الشعبية محل تايوان في الأمم المتحدة في عام 1971، ولكن في الواقع، بدأ دعم الصين الشعبية للفلسطينيين منذ عهد ماو تسي تونغ، حينها أعربت الصين عن دعمها للفلسطينيين كجزء من دعمها لجماعات التحرر الوطني، ضد “الإمبريالية الغربية”، ففي عام 1965، قال ماو لأحمد الشقيري، رئيس منظمة التحرير الفلسطينية آنذاك إن الإمبريالية تخشى الصين والعرب، وأن “إسرائيل” وفورموزا (تايوان) قاعدتان للإمبريالية في آسيا وأن الغرب لا يحبنا، وعلينا أن نفهم هذه الحقيقة، والمعركة العربية ضد الغرب هي المعركة ضد “إسرائيل”.

على الرغم من أن موقف الصين من الغرب قد تغير بشكل كبير منذ عهد ماو، إلا أن المسؤولين الصينيين يواصلون إصدار بيانات دعم للفلسطينيين حتى اليوم، على سبيل المثال في الاجتماع الأخير للرئيس الصيني شي جين بينغ مع محمود عباس (ديسمبر 2022) قال الرئيس الصيني إن بلاده تدعم دائمًا بقوة القضية العادلة للشعب الفلسطيني لاستعادة حقوقه ومصالحه المشروعة.

الصين .. جهود ومبادرات

كما تحرص الصين على التأكيد في كل فرصة على أنها تدعم “حل الدولتين”، بما في ذلك العودة إلى حدود عام 67 وشرق القدس كعاصمة للدولة الفلسطينية، علاوة على ذلك، كانت الصين منذ سنوات تطرح خططًا لإنهاء الصراع، لقد فعلت ذلك في عام 1989 و 2004 و2007 ومرة أخرى في مايو 2017، عندما استضاف الرئيس شي رئيس الوزراء “الإسرائيلي” نتنياهو ورئيس السلطة الفلسطينية أبو مازن في العاصمة الصينية في الأسبوع نفسه، بعد شهرين، قام رئيس الصين بتحديث الخطة، التي تنفذ قرار مجلس الأمن رقم 2334 الصادر في ديسمبر 2016، وتدعو إلى إقامة دولة فلسطينية إلى جانب “إسرائيل” داخل حدود عام 1967 وعاصمتها شرق القدس، وجاءت إضافة الرئيس الصيني عن استعداده لاستضافة مؤتمر دولي بمشاركة الدول  الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن والتأكيد على البعد الاقتصادي مع لفت الانتباه إلى “مبادرة الحزام والطريق” التي أعلن عنها قبل أربع سنوات.

دعم اقتصادي محدود

على عكس الخطاب الذي يؤكد على الدعم السياسي، فإن المساعدة الاقتصادية الصينية للفلسطينيين ضئيلة، كما أن المساعدات الإنسانية من خلال الأونروا منخفضة للغاية بالمقارنة مع مساعدات الدول الأخرى، على سبيل المثال، وصلت المساعدات في عام 2020 إلى 3.3 ملايين دولار، وفي عام 2021 إلى مليوني دولار فقط، وتستثمر الشركات الصينية القليل جدًا في الأراضي الفلسطينية وقد مولت منشآت صغيرة لتحلية المياه والطاقة الشمسية في غزة، هذا على عكس مشاركة الشركات الصينية في مشاريع البنية التحتية في مصر و”إسرائيل”،  على ما يبدو “من وجهة نظر بكين”، فإن الحد الأدنى من الاستثمار الاقتصادي يلبي الحاجة السياسية ويسمح للسفراء الصينيين لدى الأمم المتحدة والسلطة الفلسطينية بالتعبير عن دعمهم غير المشروط للخط السياسي الفلسطيني من أجل تعزيز صورتها كدولة محبة للسلام ومدافعة عن القانون الدولي.

اتفاقيات اقتصادية لها بعد آخر 

سياسة الصين تجاه “إسرائيل” مناقضة لسياستها تجاه الفلسطينيين، في عام 2013 وقعت “إسرائيل” والصين اتفاقية تعاون في مجال البنية التحتية، ومنذ ذلك الحين تعمل الشركات الصينية في “إسرائيل” في مجموعة متنوعة من المجالات، بالإضافة إلى مصالحها الاقتصادية المباشرة في “إسرائيل”، وتستعين الشركات الصينية ب”إسرائيل” على اعتبارها “جسرًا إلى الغرب”، في الجانب التجاري، بالنسبة للشركات الصينية، مثل شركة SIPG التي تدير الميناء في حيفا تعتبر “إسرائيل” مكانًا مثاليًا لتجربة النشاط التجاري خارج الصين، من ناحية “إسرائيل” دولة متطورة وديمقراطية، لكنها من ناحية أخرى صغيرة الحجم، تتيح التجربة في السوق “الإسرائيلية” للشركات الصينية اكتساب المعرفة والخبرة للنشاط المستقبلي في بلدان مماثلة في السوق الأوروبية، وبالمثل، بالنسبة للدبلوماسيين الصينيين، تعمل “إسرائيل” أيضًا كقناة لنقل الرسائل إلى الولايات المتحدة وأيضًا في الاتجاه المعاكس؛ من أجل فهم  المواقف الأمريكية بشكل أفضل.

في عام 2017، وقعت “إسرائيل” والصين على شراكة شاملة في الابتكار، حظيت بمباركة رئيس الوزراء نتنياهو والرئيس الصيني شي جين بينغ، ويبدو أن كلا الجانبين يحافظان على نشاط اقتصادي مكثف لشركات الأعمال خاصة في البنية التحتية والمؤسسات الأكاديمية، لكن على عكس المظهر الذي خلقته “الشراكة الشاملة في الابتكار” بين “إسرائيل” والصين، يبدو أن ثمار “الشراكة” ليست كثيرة.

انحسار في الاستثمارات

في ذروتها، بلغت الاستثمارات الصينية في التكنولوجيا الفائقة “الإسرائيلية” حوالي 8٪ فقط من إجمالي الاستثمارات الأجنبية في “إسرائيل”، ومنذ عام 2019 كان هناك انخفاض حتى في هذا الحجم المتدني، وقطاع الخدمات في “إسرائيل”، الذي شكل حوالي نصف جميع الصادرات “الإسرائيلية” في عام 2021 يصدر أقل من نصف في المائة إلى الصين.

في نهاية عام 2022، قامت الصين بخطوة مثيرة للاهتمام، عندما اعتمدت في ثلاث قمم مختلفة مع الدول العربية والخليجية صيغًا للتعبير عن دعمها لموقف الخليج في الصراع مع إيران، وبذلك هي لمحت إلى رغبتها في توسيع تعاونها الاقتصادي مع دول المنطقة، والتي هي مصدر مهم للطاقة بالنسبة لها، من المؤكد أن الصين على علم بـ “اتفاقيات إبراهام” التي تعمل “إسرائيل” ودول الخليج تحت رعايتها على زيادة التعاون الاقتصادي بينهما، وهذا  ملائم للصين و”إسرائيل” لزيادة التعاون بينهما  بمشاركة خليجية.

من ناحية أخرى، اتفق الطرفان على “عدم الاتفاق” حول سلسلة من القضايا السياسية، فقد فصلت الصين بين هذه القضايا ونشاطها الاقتصادي في “إسرائيل”، وتجاهلت الأخيرة النشاط السياسي ضدها وركزت على استغلال الفرصة الاقتصادية فقط، لكن حدث تغيير في العامين الماضيين، فقد شددت الصين من تصريحاتها بشأن الملف “الإسرائيلي” الفلسطيني، ويبدو أن “إسرائيل” غيّرت سياستها التي تضمنت تجاهل النمط “الإشكالي” لتصويت الصين ضدها في الأمم المتحدة، وانضمت إلى الانتقادات في الساحة الدولية حول معاملة الصين لأقلية الأويغور، كما بدأت “إسرائيل” في تطبيق آليات الرقابة على النشاط الاقتصادي الأجنبي، كما فعلت العديد من الدول التي يمارس فيها الاقتصاد الحر.

سياسة أم اقتصاد؟

على الرغم من تبدد آمال “إسرائيل” من الصين على المستوى السياسي، يجب أن نتذكر أن هذه من أكبر الاقتصادات في العالم ولا مصلحة “لإسرائيل” في الانفصال عنها، على الرغم من أن احتدام المنافسة بين الولايات المتحدة والصين أدى إلى تفاقم المعضلة “الإسرائيلية” بسبب الضغط الذي تمارسه واشنطن على حلفائها لتقليص علاقاتهم مع الصين فيما يتعلق بالتكنولوجيا الحديثة؛ لكن حتى في هذا الواقع الجديد  حيث تزداد أهمية الدعم الاستراتيجي للولايات المتحدة على اعتبارات “إسرائيل” السياسية والأمنية، وأن الصين لديها مصلحة اقتصادية وسياسية في توسيع علاقاتها مع دول الخليج، فإن الجانبين لديهما مساحة كبيرة يمكن فيها توسيع التعاون بينهما، ولا تؤدي جميع مجالات الابتكار إلى المنافسة بين الولايات المتحدة وحلفائها والصين.

تبذل الإدارة الأمريكية نفسها جهدًا لتوضيح أنها تسعى إلى التعاون مع الصين في المجالات التي تؤثر على مستقبل البشرية، مثل آثار المناخ وتلوث الهواء والأمن الغذائي وإمداداته وغير ذلك، وهذه مجالات تمتلك فيها الصين و”إسرائيل” قدرات بحث وتطوير وإنتاج.

أمريكا تتدخل

أثيرت العلاقات الصينية “الإسرائيلية” خلال الزيارات التي قام بها إلى إسرائيل كل من وزير الخارجية الأمريكي ورئيس وكالة المخابرات المركزية ومستشار الرئيس للأمن القومي الأمريكيين، ويُطلب من الحكومة الجديدة في “إسرائيل” مناقشة مختلف جوانب هذه القضية، إذ تعد الصين من الإمكانات الاقتصادية لأي اقتصاد متطور قائم على الابتكار مثل الاقتصاد الإسرائيلي.

كلا الجانبين لهما مصلحة في تطوير العلاقات الاقتصادية بينهما، مع محاولة خلق قواعد لعبة جديدة مناسبة لعصر المنافسة بين القوى العظمى، يجب على إسرائيل أن تعمل على تشكيل تعاون اقتصادي لا يضر بالعلاقات بين “إسرائيل” والولايات المتحدة، وفي الوقت نفسه تستمر في الحفاظ على حرية التعبير السياسي، التي ترد بشكل موضوعي على الإجراءات السياسية التي تتخذها الصين ضد “إسرائيل”.

Facebook Comments

زر الذهاب إلى الأعلى