الحرب الناعمة: في الأهداف والمراحل وطرق العمل والوسائل “الجزء الرابع”
الهدهد/ أ.عبد الله أمين الخبير العسكري والأمني
تحدثنا في الجزء الثالث من الحرب الناعمة عن الشرائح المجتمعية التي تستهدفها الحرب الناعمة ، مفصلين في الأهداف التي يتوخى تحقيقها محاربو الحرب الناعمة مع كل شريحة منها ، حيث ذكرنا في ذاك الجزء مجموعة الشرائح المتضمنة : الطبقة السياسية والقيادة للدولة ، الشعب ، المجتمع وأخيراً المنظومة الأمنية ، وهي من أهم الشرائح التي تقوم عليها أعمدة الدولة وأركانها . وفي هذا القسم نتحدث عن باقي تلك الشرائح والتي تشتمل على :
شريحة النخب في المجتمع :
- أ- تحويل هذه الشريحة إلى شريحة مراقبة محايدة :
إن النخب المجتمعية بمختلف شرائحها وتخصصاتها إنما هي جرس الانذار الذي يقرع قبل أن تدلهم الخطوب وتقع المخاطر ، وهي التي تحدد الرؤى وتضع التصورات ، ومن خلالها يصيغ المجتمع جدول أعماله . وهي كسائر مكونات المجتمع في نوع اهتماماتها وتعدد زوايا رؤيتها للمواقف والحكم عليها ، فمنهم الموالي للنظام الحاكم وخياراته ، ومنهم الملتصق بأبناء شعبه ومصالحه ، ومنهم المحايد الذي لا يعنيه من أي جهة هبت رياحه ، شعاره ما قاله المثل الشعبي ـــ اللي بوخذ أمي بقله عمي ـــ ، وأقصى ما يتمناه العاملون في ميدان الحرب الناعمة أن تتحول هذه الشريحة من الناس في المجتمع محل الهجوم إلى شريحة محايدة مراقبة ؛ هذا طبعاً إن لم تستطيع أن تحولها إلى موالية لها ولجدول أعمالها وأداة من أدوات فعلها .
- ب- إيجاد حالة من عدم الثقة فيما يخص فاعلية وإجراءات الحكومة :
وحيث أن الناس على دين ملوكهم ؛ وملوك صنع التوجهات وصناعة الرأي العام وتثويره أو إخماد جذوته ؛ هم النخب الثقافية والعلمية والدينية والسياسية و… ، فإن الحرب الناعمة تجهد في تحويل هؤلاء الناس إلى أدوات فعل تعمل على نزع الثقة وعدم القناعة أو الفاعلية والكفاءة عن أي إجراء تقوم به السلطة الحاكمة أو أي جهة تتصدى للشأن العام لا تتوافق مع أهداف المحاربين في ميدان الحرب الناعمة .
- ت- عدم الثقة في عقلانية سياسات واجراءات الحكومة :
وهنا أيضاً وفي نفس سياق النقطة السابقة ، فإن تكتيك الحرب الناعمة يعمد إلى التشكيك اصلا في عقلانية أصل السياسات الحكومية التي انبثقت عنها تلك الإجراءات ، فهل من العقل أن تواجه قوة صغيرة محاصرة في 360 كلم مربع رابع أقوى جيش في العالم ؟ وهل من العقل والعقلانية أن تُخالف أمريكا سيدة العالم ؟ وهل من العقل والعقلانية أن تواجه عين الشعب مخرز المحتل ؟ وهل من العقل والعقلانية أن تقوم لمقاومة المحتل قبل أن تكافئه أو تقترب من قوته نوعاً وكماً ؟ أو ليس مثل هذا الفعل ـــ القيام ــ أبعد ما يكون عن العقل والعقلانية ؟
فيما يخص أحزاب وجهات المعارضة الداخلية :
- أ- تنفيذ عمليات العصيان المدني :
مع هذا النوع من الشرائح يعمل المقاتلون في ميدان الحرب الناعمة على اختراق الأحزاب السياسية حتى الطبقات العليا من قادتها ، أو إلى الصفوف المتوسطة من العاملين فيها والمنتسبين لها ، هذا إن لم يكونوا ــ محاربو الحرب الناعمة ــ هم أصلا من أسس ورعى هذه الاحزاب أو بعضها ابتداءً ، ليستخدموها عندما يتطلب الأمر كحصان طروادة يخترقون بها الحصون لتفتيتها من الداخل ، فظهورهم ـ محاربي الحرب الناعمة ـــ في واجهة المحاربين والأعداء للدولة والنظام ، قد يجر معه تكتل المجتمع ، فالناس بطبعها تتحد أمام العدو الخارجي وتنسى خلافاتها ، ولكن ما هو مبرر الرفض والتكتل والاتحاد إن كان المنادي بالاطاحة بالحكومة أو الانقلاب عليها هم أبناؤها المنتمون إلى احزابها السياسية وفعالياتها المدنية ؟
- ب- القيام بالإجراءات المنسِقة والمنظِمة :
وحركات الاعتراض المجتمعية تبدأ من قليل البشر ومستصغر الشرر ، والنار المعارضة والمخالفة لن تُنضج ظروفاً تُسقط أنظمة أو حكومات إن بقيت جذوات هنا أو هناك لا يجمع بينها جامع ولا يوجه لهيب نارها موجه ، وهنا يأتي دور الأحزاب المعارضة وجمعيات المجتمع المدني NGOsالتي بنيت وجهزت أو أعدت بتوجيهات من الخارج وبنيت على عينه ، وساعدتها الظروف الداخلية على الفعل والحركة ، يأتي دورها في جمع تلك الجذوات وحزم تلك القشات ، لتصنع منها ناراً يشب أوارها ويستعر شرارها فتنضج ما يتطلب انضاجه ، وتحرق ما يتطلب احراقه ، إنه فعل ونشاطٌ طويل الأجل يقوم به محاربو الحرب الناعمة ، يستعان على نموه بالسرية والكتمان ، إلى أن يأتي دوره في ظرف موات من الزمان .
- ت- الجاهزية للاجراءات الخشنة المحتملة :
فإن نجحت تلك الأحزاب في الوصول إلى أهدافها من الاطاحة بالنظام والانقلاب عليه عبر تلك الاجراءات والحركات الميدانية متوسطة الخشونة ، من مظاهرات وعصيان وغلق للطرق وشلل للدورة الحياتية للناس ؛ فبها ونعمت ، وإن لم تستطع ذلك ، فتهئية الأجواء والظروف للارتقاء إلى مستوى أعلى من المعارضة الخشنة والمسلحة ، وعندها سيرى المراقب أن البلد الذي كان يبحث عن أدوات القتال فيه (بالسراج والفتيلة) أصبح يمور موراً بأدوات القتل والقتال ؛ ومن مختلف الصنوف والأعيرة والأنواع وجهات التصنيع وبأرخص الأثمان ، تمهيداً للقتل ؛ مطلق قتل وضياع الأوطان .
فيما يخص النخب المعارضة والقادة الموجهين للحرب الناعمة في الدول الهدف :
- أ- عمل الوسيط بين العدو والمجموعات المعارضة :
يجهد العاملون في ميدان الحرب الناعمة على مد جسور الحوار والثقة بينهم وبين عموم الشعب في الدولة الهدف ، لذلك فإن أفضل من يشكلون رأس جسر اختراق مجتمع الدولة الهدف هم أبناؤه الذين صنعت منهم الحرب الناعمة نخب وقادة يتصدرون المشهد المعارض ، فيصبحوا الوكيل المحلي الذي يعمل بتوجيهات من الأصيل الأجنبي ، هم من أبناء جلدتنا ويتحدثون بلساننا ، ولكنهم يعملون وفقاً لأوامر عمليات تأتيهم من الخارج .
- ب- العمل كمجموعات ( الاقتحام ) من أجل تهيئة الأجواء المطلوبة للحرب الناعمة :
وهذه المجموعة من البشر ، تعمل كمجموعات الاقتحام في الحروب الخشنة ، فهم من يقتحمون المحرمات والأعراف والقيم التي تحكم المجتمع ، فيسخفونها ويقللون من قيمتها وعدم فعاليتها وكفاءتها ، فَيَجرؤ من بعدهم عوام الناس ورعاعهم على هذه القيم وتلك المحرمات ، وهم ــ نخب المعارضة ـ من يجرؤ على تحطيم هيبة الدولة والدوس على دستورها والقوانين الناظمة لحياة عموم الشعب ، وهم من يبحث عن نقاط ضعف الدولة والنظام فيجلّيها ويظهرها أمام الداخل والخارج ، وهم من يبدأ بالحديث عن ضرورة التدخل الخارجي لحل مشكلة الداخل ، بعد أن جهدوا في إظهار عدم كفاءة وفاعلية الحلول الداخلية ، ليجد العدو الاصيل طريقاً ممهداً لتدخله بفعل ( ابن البلد ) الوكيل .
- ت- تأمين العناصر اللازمة لإدارة وتنظيم وتوجيه الساحة :
كما أن القيام في وجه الدولة والنظام بحاجة إلى مستلزمات مادية ولوجستية ليكون فاعلاً ومؤثراً ؛ هنا يأتي دور هذه المجموعة من النخب المرتهنة للخارج ، فتقوم بتأمين ما يحتاجة الحراك من وسائل إدارة وتنظيم وتواصل واتصال ؛ داخلي بيني ، وخارجي اعلامي ، فترى منصات مجهزة بأحدث الوسائل الصوتية ، ومجاميع تدور بين الجموع بما يسند أودهم من ماء وغذاء ، وفجأة وفي المكان الذي لم نكن نحسن الاتصال به عبر النت أو الهواتف الجوالة ؛ وإذ به ينعم بأفضل وسائل التغطية التي تؤمن الاتصال مع الشبكة العنكبوتية وأبراج الاتصال الصوتية ، وعندما تسأل عن الجهات التي تقف خلف هذا الأمر وتلك الترتيبات ، لا تجد جواباً يشفي غليلاً أو يهدي حائراً .
- ث- التعرف على المعارضين الداخليين وتطويرهم :
كما يسند إلى هذه الشريحة المجتمعية مهمة التعرف على أفراد المعارضة الداخلية وتنظيم برامج وورش عمل لتطويرهم ، وتسهيل التواصل فيما بينهم وتأطيرهم ضمن أطر عمل تخدم أهداف المحاربين في ميدان الحرب الناعمة . فبدون جهد هذه الشريحة المرتهنة للخارج ، لا يمكن للعدو الخارجي أن يتعرف على هذه الشريحة المعارضة ومدها بأسباب التطور والنهوض .
فيما يخص الأفكار الدولية والأقليمية :
- أ- قبول فكرة الإطاحة بالدولة الهدف ومواكبة ذلك :
إن ( المجتمع ) الدولي قائم على مجموعة قوانين وأعراف الهدف منها حماية سيادة وخصوصية الوحدات السياسية ، وما لم يكن هناك قبول لدى ( المجتمع ) الدولي بفكرة تغير نظام حكم ما ، وأن هناك ما يبرر تغيره كانتهاكه حقوق البشر والأقليات العرقية والدينية مثلاً ، أو أن بقاؤه يهدد السلم والأمن الدوليين ، أو أنها ــ الدولة ـــ يغطي فصيل أو مجموعة خارجة عن القانون الدولي والإقليمي ، وغير ذلك من المبررات ، فإن القيام عليه والاطاحة به لن يكون مُتفهماً ومسكوتاً عنه أمام المحافل الدولية ، وهنا يأتي دور الحرب الناعمة ومحاربيها لاطلاع الرأي الدولي والإقليمي على هذه المبررات ، إن وجدت وتضخيمها ، ليسهل بعد ذلك تبرير الإجراءات التي تفضي إلى الاطاحة بنظام الدول محل الهدف والانقلاب عليها .
- ب- عدم الاهتمام فيما يخص التدخل الخارجي للاطاحة بالدولة الهدف :
كما أن الحرب الناعمة ومن خلال ما تقوم به من أعمال ، تحاول أن تخفف من وطأة التدخل الخارجي للاطاحة بحكومة البلد أمام الرأي العام المحلي ، وأن هذا التدخل إنما هو في مصلحتهم ــ الجهات الخارجية والإقليمية ــ وأنه بدون استبداله لا يمكن أن يتم تغير الوضع الحالي ، وأن التدخل إنما هو تدخل ظرفي مرحلي مؤقت لا يلبث أن يخرج بعد أن يؤمن مطالب أبناء الشعب المنتفض ، وهم في هذا لا يرجون جزاءً ولا شكوراً .
- ت- زيادة الضغط الدولي والاقليمي على الدولة الهدف :
كما أن من أهداف إجراءات الحرب الناعمة زيادة الضغط الدولي على نظام الحكم في الدولة الهدف ، فمحاربوها الخارجيون ، يملكون شبكات من العلاقات الإقليمية والدولية ، تمكنهم من جعل منظومة الحكم في الدولة محل الهدف بين حجري رحى وفكي كماشة ؛ الداخل المعترض والمنتفض والخارج المواكب الداعم .
- ث- إبراز ما تمثله الدولة الهدف من تهديدات على الأمن والسلم العالميين :
منذ اتفاق وستفاليا في منتصف القرن السابع عشر الميلادي والذي أرسى مبدأ سيادة الدول ، وأنه لا يمكن أن تتدخل دولة في شؤون دولة ما لم يكن هنا طلب رسمي من حكومة الدولة طالبة التدخل ، الأمر الذي حصن الدول وحمى سيادتها ووفر لها مستوى ً من الاستقرار والأمن المطلوب للتطور والنهوض ، وجعل من هذا المبدأ خط الدفاع الأول عن الكيانات السياسية . ولكن في حال تبين أن نظام دولة ما وحكومتها تشكل تهديداً على الأمن والسلم الدوليين ، فإن مبدأ السيادة هذا لا يعود كافياً لحماية هذا النظام ، الأمر ــ إظهار الحكومة على أنها تهديد ــ الذي يجهد المحاربون في الحرب الناعمة على إظهاره وتجليته ، بل وتضخيمه لتوفير مبرر للتدخل في شؤون الدول والاطاحة بأنظمتها .
- ج- إضعاف أو حرمان الدولة الهدف من المدافعين على مستوى المنطقة :
وفي حال نجاح التكتيك السابق ، وإظهار الدولة على أنها تشكل تهديد للسلم والأمن الدوليين ، أو أنها لا تحترم حقوق الأنسان أو الاقليات العرقية والدينية من أبناء شعبها ، فإنها ــ الدولة محل الهجوم ــ تفقد المدافعين الإقليميين أو الدوليين عنها ، ولا تجد من يتعاطف معها أو يبرر سلوكها ، فتفقد بذلك خط الدفاع الأقليمي والدولي عنها ، وتصبح في مهب ريح الطامعين والناهبين.
كانت هذه نهاية الحديث عن الشرائح التي تسهدفها الحرب الناعمة ، وأهدافها من ذاك الاستهداف ، على أن نأتي في القسم الخامس من هذه السلسلة على ذكر المراحل التي تسير وفقها عمليات الحرب الناعمة وهي تستهدف الشرائح المختلفة في الدولة الهدف .
Facebook Comments