حماس وتحديات الجيل الرابع من الحروب
الهدهد/ عبد الله أمين
مُنذ أن خلق االله الخلق ؛ ووزع الرزق ؛ رضي قوم بما قسم لهم فأمنوا وأُمن جانبهم ؛ ولم يرض قوم آخرون ؛ فسعوا للبحث عن توسيع مناطقهم على حساب غيرهم ، فنشأت الخلافات واشتعلت الحروب ، وسفكت الدماء ، وسبي الأطفال والنساء.
وحيث أن الله وهب الأنسان وميزه عن سائر مخلوقاته بالعقل والتفكير واستخلاص العبر ، فإنه ـ الانسان ـ على خلاف سائر مخلوقات الله الأخرى كان بعد كل جولة من جولات صراعه مع أخيه الأنسان ، يخلد لنفسه ، أو تخلد القبيلة والعشيرة لنفسها ، فتبحث في سبب الصراع وأصله ، وما ارتكبته أثناءه من أخطاء وتقصيرات ؛ علّها في الجولة القادمة تتلافى هذه النواقص ؛ فتجبه عدواً أو تقلل خسائراً ، أو تنتصر بأسرع وقت وأقل تكلفة ، فتوسع مناطقها وتحمي مصالحها ، وتكثّر من موارد رزقها ، ويُخشى جانبها فلا تغزى ولا تهدد ؛ فيطيب لها الحال ويهنأ لها المقال .
ومن هنا وأنطلاقأً من ميزه التفكير واستخلاص العبر والدروس ، فقد مرت الحروب والصراعات في مراحل ، وانتقلت من جيل إلى جيل ومن نمط عمل إلى آخر ، ومن وسائط للقتال بسيطة التحضير والتشغيل إلى ما هو أعقد منها تحضيراً وتشغيلاً ، إلى أن وصلنا إلى عصر الطائرات الشبح والمسيرة عن بعد ، وصواريخ تُحّمل احداثيات ومواصفات قالهدف ؛ فتبحث عنه من بين مئات الأهداف في ساحة المعركة لتضربه وتدمره دون أن تعرض جواره القريب فضلاً عن البعيد لأي ضرر أو خطر .
والمتتبع لمسار تطور الحروب ؛ شكلاً ومضموناً ، أهدافاً وطرق عمل ، وسائط وآليات تشغيل ؛ يرى أنها قد مرت حتى الآن بأربع أجيال :
1. فالجيل الأول ؛ جيل حرب روما مع اسبارطة ، ومسلمي المدينة مع كفار مكة ، وصلاح الدين الأوبي مع صليبي بيت المقدس ، كان يُرى جيشان في ساحة معركة واحدة ، يرى أحدهم الآخر ، ويصطف فرسان هؤلاء أمام فرسان أولائك ، ويعلو صوت الطبول ، ليتقدم فارسان أو أكثر من فرسان القوم المتحاربين ، عارضين عليهم المبارزة ، والتحدي ، فيتبارزا بسيفيهما وترسيهما ، فيقتل أحدها الآخر فتنتهي المعركة عند هذا الحد ، أو يخسرها نفسياً ومعنوياً من قتل فارسه ، فيخوضها خائر القوى والعزيمة ،ثم بقيت الحرب على هذا المنوال إلى أن دخلت جيلها الثاني .
2. فخاضها جنود حاملي بنادق يعاد تذخيرها بعد كل طلقة ، ولم تكن هذه البنادق آلية الرمي أو دقيقة التصويب ، ثم دخلت الدروع والدبابات ومدافع الميدان ، فكان الجندي يقتل خصمه دون أن يراه أو يتحقق من تفاصيل وجهه ، فتعقدت ساحة المعركة ، فلم نعد نرى فرساناً يتنادون للمبارزة أو التحدي ، وإنما هي نار تُتبادل ، ووحوش حديدية تتحرك مسرعة ، لسحق الخطوط الأمامية للجبهة المعادية ، فيخسر من يقتل منه عدد أكبر ، أو تخترق آليات وجنود عدوه أرضه فتحتلها وتقيم عليها سلطة احتلال ، فكان التهديد يرى مواجهة ، فلا خشية أو تهديد من السماء ما لم تكن طلقة مدفع يتقى منها بغار أو بسقف .
3. ثم دخلت الطائرات على بساطة شكلها وبدائته إبتداء ثم تَحدثّت ، فأعطت للمعركة بعداً ثالثاً ، بعد أن كانت أبعادها مقصورة على البر والبحر ، وبدأنا نسمع بالمناورة القائمة ، والمناورة الرأسية ، وحسم المعارك من الجو ، والمعركة الجو أرضية ، وأصبح التهديد يطال عمق أرضي البلاد ولا يقتصر على ساحة المعركة ، ففي الوقت الذي كان يخشى فيه الجندي المقاتل على نفسه من الموت في ساحة المعركة ، أصبح يخشى على أهله وبنيه وعائلته في عمق بلاده ، فأضيف الضغط النفسي إلى الضغط المادي ، على الجنود والقادة في مختلف المستويات والجغرافيات .
4. ثم وصلنا إلى الجيل الرابع من الحروب ، جيل الحرب غير المتكافئة ، الحرب التي تستخدم فيها جميع وسائل ووسائط الضغط النفسي والمادي على الجنود والقادة ، في مختلف الجغرافيات والمستويات ؛ حرب تخاض غمارها في مسارح العمليات ، حيث الدماء والاشلاء ، كما خلف شاشات الكمبيوترات وعدسات الكاميرات ، حرب قد يساوي فيها أثر ضغطة زر في لوحة تحكم بعيدة كل البعد عن ساحة المعركة، أضعافاً مضاعفة من القنابل والبارود ، فتشل الأولى حيوات كثيرة ؛ بقطع الماء أو الكهرباء أو سبل عيش عن الناس ، فتحدث خلاً في الجبهة الخلفية للقوات المقاتلة ، ما ينعكس هزيمة مدوية في ساحة المعركة ، فتُهزم حيث كنت متقدماً ، وتُقتل حيث كنت تَقتل ، حرب لا يقال فيها كما سابقاتها من الحروب : أين العدو ؟ وإنما يقال فيها : من العدو ؟
إن هذا النوع من الحروب هو ما تواجهه حماس في هذا الوقت من الزمان ، وهي ما يجب أن تُعد العدة ( مادياً وبشرياً) له ؛ حيث من صفات هذه الجيل من الحرب أنها :
1. ذات مجالين أو بعدين ؛ سياسي وعسكري ، فلا يصلح خوضها بدون هدف أو فهم سياسي ، فالحنكة هنا لا تقتصر على كيفة المناورة بالقوات والتشيكلات في ساحة المعركة فقط ، بل تتعداه إلى الساحة السياسية ، فإن كنت قوياً في البعد العسكري ، ضعيفاً في الشق السياسي ، أو لديك وضوح رؤيا في الأولى وضبابية في الثانية ، فقد يجوف نصرك الميداني من معانيه ولا تستطيع أن تجني نصراً مما زرعته من الدماء والاشلاء . وعليه يجب أن يعرف القادة السياسيين ما هية الأهداف التي تخاض الحرب على اساسها ، كما يجب عليهم أن يُعّرفوا النصر في المعركة تعريفاً دقيقاً ، حتى لا تختلط الأمور ، وتضيع التضحيات .
2. كما أن من صفات الحروب الحديثة ، تكوين وتشكيل الأهداف الافتراضية ؛ فيقوم العدو (قاصداً ) برسم صورة أكبر وأخطر بكثير مما خصمه عليه ، هادفاً من ذلك إلى جعل عدوه يعيش حالة الانتشاء والغرور ،مما يدفع المراقب عن بعد للاعتقاد أن ما استخدم من وسائل قتل وتدمير ؛ إنما يبرره ضخامة هذا العدو ، فيصبح القتل والدمار مبرر ، كما يصعب مع مثل هذا الصورة وهذا الوضع كسب الرأي العام إلى صفك ؛هذا لا يعني أن يقوم أبناء الحركة بتكذيب كل ما ينشر أو يقال حول تطور قدراتهم ؛ وإنما المطلوب في مثل هذه الحالات التزام الصمت وتبني سياسة الغموض ؛ فهي (سياسة الغموض ) في حد ذاتها سلاح فعال في حروب الجيل الرابع ، فكيف تحّيد تهديداً لا تعرف كنهه وحجمه وجهته ؟
3. في هذا النوع من الحروب ، لا يقتصر مسرح العمليات ، على ساحة العمل التي تراها أو تشتبك مع عدوك فيها ، وإنما يتعدها إلى ما بعدها ، إنها حرب قد يتزامن فيها الفعل الأمني مع النشاط العسكري أو يسبقه ، والعكس صحيح ؛ فقد تكون مشتبكاً مع عدوك في ميدان المعركة الخشنة ، ولكنه يستهدفك في ساحة عمل أخرى ، فيقتل قائداً أو سياسياً أو فنياً ، فيخلط الأوراق ويبدل الأوليات ويصرف الانتباه .
4. وهي حرب لا تسير سيراً خطياً ، كما كنا نرى سابقاً ، ففارس يقتل فارس ، ليلي ذلك سهام تتطاير ، ثم مشاة يتقدمون ، أو طلعة جوية تدمر أهدافاً ثم تمهيدٌ مدفعي يليه تقدم بري ، إنما قد تبدأ بضربة في عمق الجبهة الداخلية للبلد ؛ تدمر مراكز الثقل ؛ من منشآت ومباني ، وتقطع الأوصال ، وتفقد السيطرة ، وفي نفس الوقت ؛ قصف مدفعي يدمر خط جبهتك ويشتت جهازك الدفاعي ، فتقع بين حجري رحى الحرب ، ففي المقدمة دماء وأشلاء ، وفي المؤخرات ؛ حيث يفترض الاستقرار والسيطرة ؛ أولويات تفرض نفسها ، فلا تحتمل التأجيل ، فما لم يعاد ضبطها وترتيبها ؛ فالخلل في المؤخرة يصبح هزيمة في المقدمة ، والثغرات في الخطوط تصبح معابر ، وعندها فالهزيمة محققة والخسائر غير معوضة .
إن مثل هذا الجيل من الحروب ، يتطلب يقظة وحنكة واحاطة بالمشهد في كل أبعاده ، وقدرة على التحكم في مكوناته وأجزائه ، ومعرفة متى يُقّدم هذا ويؤخّر ذاك ، ولمن نخصص القدرات ومتى ؟ وممن نختصر وكيف ؟ إنها حرب تتبع سنن كونية وقوانين وقواعد فنية وتخصصية ؛ المنتصر فيها من يراعيها ، ومن لا ينم لعدوه ولو كان نملة .
Facebook Comments