روسيا في الشرق الأوسط:
تعاون استراتيجي مع مصر والسعودية في ظل الضغوط الأمريكية
ترجمة الهدهد
الكاتب د. موشيه ألبو، د. شاي هار تسفي
لقد نجحت روسيا في ترسيخ مكانتها في الشرق الأوسط في السنوات الأخيرة كعامل قوة مؤثر وذات قدرة على تعزيز مصالحها من خلال التدخل العسكري المباشر (سوريا) أو غير المباشر (ليبيا، شمال إفريقيا)، ومن خلال الدبلوماسية العدوانية ومبيعات الأسلحة المتطورة والتعاون في مجال الطاقة والصفقات النووية المدنية.
وتعمل الاستراتيجية الروسية في مجموعة واسعة من الأدوات من أجل إثبات تأثيرها وكسر الموقف الإقليمي الأمريكي ودفع التحركات والأجندات التي تخدم أهداف السياسة الروسية الشاملة.
تتسع المعركة في أوكرانيا لتصبح أخطر أزمة عالمية منذ الحرب العالمية الثانية، وتضع التعاون الاستراتيجي الذي تمكنت موسكو من إقامته مع بعض دول المنطقة محل اختبار في ظل العقوبات الشاملة وغير المسبوقة المفروضة عليها.
وزادت الحرب من حدة الأزمات الاقتصادية العالمية وأثرت بشكل مباشر على الاقتصادات الهشة في منطقة الشرق الأوسط، ويعد الانهيار الاقتصادي وأضرار الأمن الغذائي في البلدان التي عانت بالفعل من أزمة اقتصادية عميقة في العامين الماضيين بعد وباء كورونا سيناريو محتمل في ظل الأثمان الباهظة والمستمرة للمعركة في أوروبا.
في هذا الواقع المعقد يتعين على دول المنطقة صياغة سياسات مصممة على أساس مصالح الأمن القومي والاحتياجات الاستراتيجية على المستوى الوجودي والجيوسياسي، إلى جانب الحفاظ على القدرة على المناورة مع إدارة المخاطر بحكمة في ظل عدم الرغبة في عدم تخريب العلاقات مع أي من الأطراف.
من ناحية أخرى تحتاج روسيا إلى إيجاد طرق للحفاظ على العلاقات التي أقامتها في السنوات الأخيرة كركيزة أساسية في جهودها لتقويض تماسك وقوة العقوبات المفروضة عليها.
مصر – الحفاظ على التعاون الاستراتيجي مع روسيا..
في أغسطس 2014 زار السيسي موسكو لأول مرة كرئيس لمصر، وتشير الزيارة إلى رغبة النظام المصري في تقليص اعتماده الاستراتيجي على واشنطن في مواجهة السياسات التي انتهجتها الولايات المتحدة بعد الإطاحة بالرئيس مرسي، وإدراكاً لضرورة تنويع الدعم الأمني والعسكري والسياسي.
من جانبها وجدت موسكو فرصة لتعزيز العلاقات الاستراتيجية بين البلدين ودق إسفين بين القاهرة وواشنطن.
فيما تسعى روسيا إلى بث نفوذ إقليمي وفتح طرق تجارية عبر القناة إلى إفريقيا وخاصة إلى ليبيا، جنباً إلى جنب مع التأسيس لتواجد طويل الأمد على محور استراتيجي مهم عالمياً – قناة السويس-، وفي نفس الوقت ترسيخ مكانتها كداعم رئيسي وإستراتيجي.
في أكتوبر 2018، تم توقيع اتفاقية تعاون استراتيجي بين مصر وروسيا يهدف إلى تعزيز العلاقات الاقتصادية والأمنية بين البلدين، كان الهدف المصري في تعزيز التعاون هو تحفيز الاقتصاد وتنويع الاستثمار الخارجي وتشجيعه وخلق بديل للدعم الأمريكي، وكجزء من ذلك تم توقيع عقد لبناء محطات طاقة نووية بقيمة 30 مليار دولار بتمويل روسي بنسبة 85% بشروط قرض مريح، وإنشاء مناطق صناعية في منطقة قناة السويس، والترويج لصفقات أسلحة متطورة وتدريبات عسكرية مشتركة وأكثر من ذلك.
ولم تضر الحملة في أوكرانيا بالتعاون الاستراتيجي بين البلدين رغم ضغوط الغرب والولايات المتحدة على القاهرة، وفي هذا السياق تحدث الرئيس السيسي مع الرئيس بوتين (9 مارس) عن المعركة في أوكرانيا، وضرورة تعزيز التعاون الاستراتيجي بين البلدين من خلال تطوير المشاريع المشتركة وتعزيز الروابط والعلاقات التاريخية بين البلدين.
ومن الأمثلة البارزة على ذلك وصول وفد روسي برئاسة ألكسندر لوشكين نائب رئيس الطاقة النووية في شركة “روساتوم” في زيارة عمل إلى الضبعة (17 نيسان) لفحص وتيرة تقدم العمل في محطات الطاقة النووية.
وتأتي الزيارة وسط مخاوف من توقف العمل بسبب العقوبات المفروضة على روسيا وعدم قدرة موسكو على تمويل المشروع.
وجدد لوشكين التزام روسيا بإنهاء المشروع في الوقت المحدد، وتعهد بمواصلة توسيع التعاون في مجال الطاقة بين البلدين، هذا البيان أو التصريح مهم بشكل خاص في ضوء الأنباء التي تفيد بأن الإدارة الأمريكية تدرس أيضاً إدراج “روساتوم” في قائمة الشركات الحكومية الخاضعة للعقوبات.
إن الرسالة الروسية في هذا السياق واضحة وهي أن موسكو قادرة على الاستمرار في الحفاظ على علاقاتها والتزاماتها الاقتصادية على الرغم من الضغط الذي يمارسه الغرب عليها وعلى شركائها الاستراتيجيين.
إضافة إلى ذلك انعكست العلاقات بين البلدين في الحفاظ على التعاون الاقتصادي.
فقد تعرض الاقتصاد المصري لضربة شديدة في أعقاب المعركة في أوكرانيا، والتي انعكست في ارتفاع التضخم (يقدر صندوق النقد الدولي أن معدل التضخم السنوي سيصل إلى 11% بحلول عام 2023) وغلاء كبير في أعقاب ارتفاع أسعار القمح والوقود.
بالإضافة إلى ذلك فإن الخوف من أزمة غذاء (تستورد مصر 80% من إمدادات القمح من روسيا وأوكرانيا) دفع الحكومة للبحث عن أسواق إضافية لواردات القمح، ويرجع ذلك أساساً إلى الضرر الذي لحق بالإمدادات من كييف.
في الواقع زادت روسيا من صادرات القمح إلى مصر بنسبة 24% خلال شهر مارس الماضي وتمكنت من الحفاظ على أهميتها لسوق الغذاء المحلي.
الحفاظ على أسعار النفط يعمق الأزمة بين السعودية والولايات المتحدة
تناول المحلل السعودي الكبير محمد اليحيى (رئيس التحرير السابق لقناة العربية) الأزمة المتصاعدة في العلاقات السعودية الأمريكية وطرح سؤالاً مُلحاً: لماذا يجب على حلفاء واشنطن الإقليميين مساعدة الولايات المتحدة في كبح جماح روسيا في أوروبا، في حين أن الولايات المتحدة تعزز من قوة إيران في الشرق الأوسط؟ علاوة على ذلك كما يزعم، فإن السياسة الأمريكية معقدة ومليئة بالتناقضات والشروط، حين أن السياسة الصينية للمقارنة بسيطة وواضحة، علاقات تجارية لبيع النفط مقابل بيع أسلحة بدون قيود، ومصلحة مشتركة في استقرار سوق الطاقة العالمية.
لم تبدأ الأزمة بين السعودية والولايات المتحدة في أعقاب الحرب في أوكرانيا، لكن الحرب في أوروبا أبرزت حدتها
وبالتالي عدم استعداد السعودية والإمارات للاستجابة لطلب الولايات المتحدة بزيادة معدل إنتاج النفط من أجل خفض الزيادات العالمية في أسعار الطاقة، ورفض الحديث مع الرئيس الأمريكي، واستمرار وجود تعاون اقتصادي صناعي مع روسيا، بينما تسعى الولايات المتحدة لعزل موسكو توضح عمق الأزمة التي وصفها البعض بأنها الأشد خطورة في الخمسين عاماً الماضية.
البرنامج السعودي الساخر “استوديو 22” الذي صور بايدن على أنه رئيس عجوز، وسخيف أصبح الأكثر انتشاراً في العالم العربي، وكان تعبيراً آخر عن انتقاد الرياض القاسي لحليفها التاريخي.
تنبع أزمة العلاقات بين البلدين من سلسلة من القضايا التي خلقت مشكلة ثقة أساسية بين الدولتين: اتهام ولي العهد السعودي باغتيال الصحفي خاشقجي (لم يتحدث الرئيس بايدن بعد مع محمد بن سلمان بعد توليه منصبه)، وعدم استعداد الولايات المتحدة لتصنيف الحوثيين كمنظمة إرهابية على الرغم من هجمات التنظيم المتكررة على السعودية والإمارات، واتهامات للسعودية بأنها ترتكب هي والإمارات جرائم حرب في القتال في اليمن، والقيود على مبيعات الأسلحة الني تلت ذلك، والتحالف القوي بين واشنطن وقطر الأمر الذي أثار غضب الدول السنية.
ومع ذلك فإن المحرك الرئيس للأزمة هو السياسة الأمريكية تجاه إيران ورغبة الإدارة الأمريكية في العودة إلى الاتفاق النووي، ويُنظر إلى هذه الخطوة على أنها خطوة تهدد أمن دول الخليج، وتحدث تصدع في التحالف التاريخي بينها وبين الولايات المتحدة، والتعبير الرمزي عن الأزمة هو المحادثات الهاتفية الأخيرة بين محمد بن سلمان ورئيسي روسيا والصين.
من جانبها تسعى روسيا جاهدة إلى الحفاظ على المعارضة السعودية للضغط الأمريكي للعمل على خفض أسعار النفط في ظل أوبك بلس، وهي خطوة حيوية في تخفيف تأثير العقوبات على الاقتصادات الغربية. بالنسبة لروسيا المعادلة بسيطة – رفض السعودية الاستجابة للمطالب الأمريكية يعني استمرار ارتفاع أسعار النفط أو على الأقل الحفاظ عليها بسعر مرتفع، بطريقة ستدر أرباحاً على روسيا، وتعويض تقليص حجم الصادرات بسبب العقوبات.
معانٍ
ستواصل روسيا بذل كل ما في وسعها للحفاظ على المعارضة السعودية لانخفاض أسعار النفط، وتأجيج التوترات بين الرياض وواشنطن، وضمان استمرار التعاون الاستراتيجي مع مصر ويتيح هذا الوضع لموسكو كسر الطوق الغربي الخانق عليها، ويوضح قدرتها على الاستمرار في الحفاظ على التعاون الاقتصادي والأمني مع شركائها.
مصر لن تضر بالشراكة الاستراتيجية الحيوية مع روسيا حتى على حساب الاحتكاك مع واشنطن، عسكرياً وغير ذلك لن تضر بعلاقاتها الاستراتيجية مع موسكو، وستعمل القاهرة على الحفاظ على علاقاتها الأمنية والاقتصادية مع الولايات المتحدة، لكن نظراً لاعتمادها على القمح الروسي والسياحة وتطوير مشاريع التنمية الوطنية وخاصة المشروع النووي المدني والتعاون العسكري وغير ذلك فإنها لن تضر بعلاقاتها الاستراتيجية مع موسكو.
في هذه المرحلة تمتنع واشنطن عن ممارسة الضغط على القاهرة، على ما يبدو في ضوء فهمها لشدة الأزمة الاقتصادية والرغبة في الحفاظ على نفوذها في مصر.
إن الأزمة بين الرياض وواشنطن حقيقية وتتعلق بالسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، والتزام واشنطن بأمن حلفائها الإقليميين، وطالما أن البيت الأبيض لا يعمل على إصلاح العلاقات، ويثبت للرياض وأبو ظبي أنه ضامن لأمنهما فإنه سيجد صعوبة في إقناعهما بتغيير سياستهما في مسألة إنتاج النفط.
إن المصلحة الأمنية “لإسرائيل” هي أن تظل دول الخليج ومصر والأردن تحت مظلة الدعم الأمريكي، بالنظر إلى التداعيات الاستراتيجية والخطيرة على المدى البعيد على “أمن إسرائيل” في حال حدوث تغيير.
هناك دور لإسرائيل في التوسط بين واشنطن والمعسكر السني وتهدئة التوترات، وهذا الدور يحدد أيضاً مكانة “تل أبيب” وأهميتها لواشنطن ولدول المنطقة.
بالإضافة إلى ذلك فإن المصلحة المشتركة المتمثلة في كبح الخطر الإيراني على دول الخليج واستقرار المنطقة (قوات تابعة ونيران باليستية وطائرات انتحارية) تزيد من إمكان تعزيز التعاون الأمني الاستراتيجي تحت مظلة القيادة الوسطى للقوات الأمريكية (سنتكوم).
Facebook Comments