ترجمة الهدهد
جيروزاليم بوست
يُعتبر خروج أنجيلا ميركل عن السياسة لحظة حزينة لكثير من اليهود الألمان، وبالنسبة للمؤسسة اليهودية الألمانية والأوروبية، فإن رحيل ميركل يُمثل خسارة كبيرة باعتبارها شخصية ذات ثقة للجالية اليهودية.
بعد أن جرّمت محكمة ألمانية الختان للأولاد في عام 2012، قامت أنجيلا ميركل بشيء غريب جدًا بالنيابة عن “مستشارة سيادة القانون” كما أطلقت عليها، وقالت ميركل: إن الحكم الذي صدر ضد شخص قام بختن طفل مُسلم، يعرض ألمانيا لخطر أن تُصبح “أضحوكة” وذلك بانتهاك القانون غير المُعلن في البلاد بشأن عدم انتقاد المُستشارين للسلطة القضائية من منصبهم التنفيذي.
قالت ميركل في ذلك الوقت: “لا أريد أن تكون ألمانيا الدولة الوحيدة في العالم التي لا يستطيع فيها اليهود مُمارسة طقوسهم”.
وقال الحاخام بنشاس جولدشميت رئيس مؤتمر الحاخامات الأوروبيين المولود في زيورخ إنه يُقدر جهود ميركل المبذولة تجاه المُجتمع اليهودي “على أرض الواقع”، فقامت منظمته بتكريم ميركل عام 2013.
وقال جولدشميت لوكالة التلغراف اليهودية “لقد كانت ميركل حليفاً مُهماً ويُعتمد عليه، ليس قولاً بل فعلاً”.
في تشرين الثاني (نوفمبر) ستتنحى ميركل (عن عمر يناهز 67 عاماً) بعد مرور 16 عاماً على وجودها في الحكومة، منهيةً بذلك فترة حكم أحد أهم زعماء أوروبا في الآونة الأخيرة، (ارثها الملوث بالنسبة للبعض بقبولها وجود مئات الآلاف من اللاجئين من الشرق الأوسط في ألمانيا وسياستها المالية التقشفية تجاه بقية الاتحاد الأوروبي) وانتمائها المُتناقض في بلدها الأم -كما يقول البعض-، لكن بالنسبة للمؤسسة اليهودية الألمانية والأوروبية فإن رحيلها يُشير إلى فقدان “شخص موثوق به للجالية اليهودية” كما قال جوزيف شوستر رئيس المجلس المركزي لليهود في ألمانيا لوكالة JTA، وقالت شارلوت كنوبلوخ إحدى الناجيات من الهولوكوست والتي ترأست الجالية اليهودية في ميونيخ: “نحن آسفون بشدة لرؤية المستشارة أنجيلا ميركل تترك المنصب السياسي”.
كان لسياسات ميركل اللاحقة تأثيرات كبيرة على يهود ألمانيا على أرض الواقع وعلى الصعيد السياسي، حيث حقق حزب البديل من أجل ألمانيا مكاسب في أعقاب تعثر حزبها، ومع ذلك فهي تركت انطباعاً جيداً حيث ينظر إليها على نطاق واسع أنها مُناضلة من أجل القضايا اليهودية.
قال غولدشميت: “إنه إرث مُختلط، حيث أن الخير يفوق الشر إلى حد كبير”.
مُعضلة اللاجئين الرئيسية:
ميركل ابنة وزير كنسي من ألمانيا الشرقية السابقة وتُعتبر الزعيمة الأطول خدمة في الاتحاد الأوروبي، وإنها لا تسعى إلى إعادة انتخابها في الانتخابات العامة يوم غد الأحد، حيث يبدو أن حزب يمين الوسط، والاتحاد المسيحي الديمقراطي أو ما يعرف ب (CDU)، في سباق مُتقارب مع الحزب الاشتراكي الديمقراطي من يسار الوسط أي ما يعرف ب (SPD).
إن ميركل دفعت من أجل التضامن الأوروبي كرئيسة لأكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي، وقد وطدت شراكة ألمانيا مع دول مثل فرنسا وبريطانيا وهما دولتان تتمتع ألمانيا بتاريخ مُضطرب معهما، لكن إجراءات التقشف المالي التي اتخذتها لاسيما تجاه اليونان في عام 2015 كان كشرط مُسبق لإنقاذ الانتعاش الاقتصادي، والتي أدى إلى عدم الاستقرار السياسي في اليونان وعزل العديد من الأوروبيين خاصة الدول ذات الاقتصاد الأكثر فقراً.
على الصعيد المحلي أشرفت على سياسة إنفاق عام صارمة مما ساعد اقتصاد ألمانيا على التغلب على أزمة فيروس كورونا بشكل أفضل من باقي الدول، بمساعدة خطة الانقاذ بتمويل يقدر ب 1.2 تريليون دولار، تتضمن سياساتها البيئية مساعي طموحة لخفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بنسبة 20% بحلول عام 2040 من أجل مكافحة الاحتباس الحراري.
لكن كانت رغبة ميركل الجريئة في استقبال ما يقرب من مليون لاجئ في ذروة الحرب الأهلية السورية التي كانت أكثر المجتمعات الألمانية استقطاباً.
أثارت هذه الخطوة رد فعل عنيف من اليمين المتطرف وساعدت في تأجيج صعود حزب البديل (AFD) من أجل ألمانيا، ويسعى الحزب إلى العودة إلى “اللغة الألمانية باعتبارها الثقافة السائدة بدلاً من التعددية الثقافية وقوانين الهجرة الأكثر صرامة” ووضع حد للتمويل العام للمساجد والأنشطة الإسلامية الأخرى.
قال غولدشميت: “طالما كانت ميركل قوية، لم يكن هناك اليمين المُتطرف في البرلمان الألماني، ويمكنك المُجادلة لصالح أو ضد قرار [اللاجئين] على المستوى الأخلاقي والاقتصادي، ولكن ليس على الصعيد السياسي”.
فيما دعا بعض قادة حزب البديل من أجل ألمانيا إلى التخلي عن الخطاب الاعتذاري الذي أصبح هو المبدأ الأساسي في ألمانيا بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية وصدمة الهولوكوست، كما تعامل الحزب مع الخلافات التي تنطوي على معاداة السامية والنازيين الجدد في صفوفه، وحث المجلس المركزي لليهود في ألمانيا المواطنين على عدم التصويت لصالح الحزب البديل من أجل ألمانيا واصفاً إياه بأنه “مرتع لمُعاداة السامية والعنصرية وكراهية الإنسان” وذلك في بيان صدر في 10 سبتمبر، لكن حزب البديل المؤيد “لإسرائيل” والذي يتحدث برنامجه عن “الأسس اليهودية والمسيحية والإنسانية لثقافتنا” رفض الادعاءات القائلة بأن لديه مشكلة معاداة السامية وطرد العديد من الأعضاء بسبب السلوك اللا سامي والتعاطف مع النازيين، ولديه بعض المؤيدين اليهود بمن فيهم مرشح للبرلمان في برلين.
يرى البعض أن هناك صلة بين هذه الأحداث والانفجارات التي شهدتها ألمانيا في السنوات الأخيرة، حيث وثّقت الحكومة 2351 حالة معاداة للسامية في عام 2020 وهي أعلى حصيلة منذ عام 2001 وزيادة بنسبة 15% عن عام 2019. وتُنسب الحكومة 90% من الحوادث إلى حزب اليمين – وقد تجسد ذلك في هجوم مُسلح من النازيين الجُدد على كنيس يهودي في هالي في 2019، لكن منتقدي ممارسات التوثيق الحكومية يقولون إن العديد من الهجمات نفذها في الواقع أشخاص ينحدرون من عائلات مُسلمة، وأن ألمانيا قللت من أهمية هذه الإحصاءات لتجنب النظر إلى الإسلاموفوبيا.
وفقًا لهذه الإحصائيات تم ارتكاب عدد قليل نسبياً من الحوادث المعادية للسامية من قبل أشخاص قدِموا إلى ألمانيا خلال أزمة الهجرة التي بدأت في عام 2011، لكن أحد طالبي اللجوء هؤلاء شارك في أخطر هجوم إرهابي إسلامي على الأراضي الألمانية، حيث صدمت سيارة “متجر كريسماس” في عام 2016 وقتل 12 شخصاً على اثر ذلك، وألقي القبض على لاجئ سوري يبلغ من العمر 16 عام الأسبوع الماضي للاشتباه في أنه خطط لمُهاجمة كنيس يهودي بالقُرب من دوسلدورف.
تصاعدت المخاوف من حزب اليمين المُتطرف والمواقف المُعادية للسامية لبعض المُسلمين الألمان لدرجة أن بعض اليهود يُشككون في مُستقبلهم في ألمانيا، وهُناك من يلوم ميركل على هذا الوضع.
قال بافل فاينستين وهو فنان يبلغ من العمر 61 عاماً وأب لثلاثة أطفال من برلين “منذ ثماني سنوات فقط صوتّ لها أيضاً، لكنه كان ذلك خطأً كبيرًا”، وأضاف ” أنا أفكر في الهجرة” مستخدماً الكلمة العبرية للهجرة إلى “إسرائيل”.
وقال: “أشعر أن الأمر أصبح مُزعجاً أكثر فأكثر ولا أرى أي احتمالات تبعث الأمل بسبب التطور الديموغرافي” مشيراً إلى وصول مئات الآلاف من المُسلمين إلى ألمانيا وأضاف: “هي المسؤولة عن ذلك”.
فينشتاين هو واحد من 100 ألف يهودي على الأقل هاجروا إلى ألمانيا من الاتحاد السوفيتي السابق، وقد أعرب في الماضي عن دعمه لحزب البديل من أجل ألمانيا لكنه امتنع عن الكشف عن من ينوي التصويت له يوم الأحد.
مُعاداة السامية و”إسرائيل”:
إلى جانب التدقيق الدولي كانت ميركل أكثر زعيمة في الكفاح ضد مُعاداة السامية خلال فترة ولايتها، قامت الحكومات الفيدرالية وحكومات الولايات في ألمانيا بتعيين مبعوثين خاصين لمُراقبة كراهية اليهود ومُكافحتها، وفي أعقاب مُحاولة القيام بمذبحة كنيس هالي بالقُرب من برلين في عام 2019، والتي فشل خلالها مُتطرف يميني في شق طريقه إلى كنيس يهودي مُزدحم في “عيد الكيبور” ثم قتل شخصين بالقرب من مطعم، وأعطت الحكومة الفيدرالية الألمانية يهود ألمانيا 26 مليون دولار إضافية بعد الاحتياجات الأمنية.
في عام 2019 خصصت حكومة ميركل مبلغاً إضافياً قدره 66 مليون دولار لأعمال الوقاية في معسكر الموت النازي السابق أوشفيتز بيركيناو في بولندا خلال زيارتها هناك في ذلك العام، وهي أول زيارة لها كمُستشارة حيث قالت ميركل إنها شعرت بـ “خجل عميق” لما فعله مواطنوها لليهود قبل وأثناء المحرقة.
“تذكر الجرائم مسؤولية لا تنتهي أبداً”
وقالت ميركل: “إ ن إدراك هذه المسؤولية جزء من هويتنا الوطنية”.
في عام 2015 أصبحت ميركل أول مستشارة تزور معُسكر الاعتقال النازي السابق بالقرب من ميونيخ والذي يُسمى “داخاو” حيث قتل النازيون حوالي 40 ألف ضحية أكثرهم من اليهود، وفي هذا العام بالشراكة مع المُجتمعات الألمانية المحلية أطلقت حكومتها سلسلة من الأحداث في جميع أنحاء البلاد للاحتفال بـ 1700 عام من الوجود اليهودي في ألمانيا.
فيما يتعلق “بإسرائيل” دعت ميركل إلى حل الدولتين لحل “النزاع الإسرائيلي الفلسطيني”، الأمر الذي جعلها في بعض الأحيان على خلاف مع “رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو” الذي عارض قيام الدولة الفلسطينية، لكن الاثنين “اتفقا على الاختلاف” بشأن بعض القضايا، وفي عهد ميركل سلمت ألمانيا “لإسرائيل” العديد من سُفن المُدمرات البحرية الحديثة بتمويل ثُلث تكلفة المشروع البالغة 500 مليون دولار.
في عام 2019 وضمن الاتحاد الديمقراطي المسيحي صدر قرار في مجلس النواب بالبرلمان الألماني يدعو إلى حركة المُقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العُقوبات ضد “إسرائيل” والمعروفة باسم BDS وهي حركة مُعادية للسامية (وهو رأي يشاركه العديد من اليهود الألمان).
أشارت شوستر إلى إحدى الخطب العديدة التي ألقتها أمام “الكنيست الإسرائيلي” على مر السنين مُشيرة إلى أنها قالت: “إن أمن -إسرائيل- لن يكون أبداً قابلاً للتفاوض بالنسبة لألمانيا لأن المسؤولية التاريخية لألمانيا هي جُزء من “وجود الدولة”، على حد قولها مما يعني أنه جزء لا يتجزأ من سياسات الحكومة الألمانية.
قال “إليو أدلر” وهو طبيب أسنان من برلين وناشط يروج للقضايا اليهودية في السياسة الألمانية خلال سنوات ميركل: “لقد اعتاد المرء تقريباً على موقف مؤيد لليهود ومؤيد -لإسرائيل- في الحكومة”.
وأضاف “ونحن بالطبع نأمل أن يستمر هذا في المستقبل.
Facebook Comments