عن القائد “الجزء الرابع”
✍️ عبد الله أمين الخبير الأمني والاستراتيجي
تحدثنا في الأجزاء الثلاثة السابقة عن القائد ومهامه وبعض التعاريف المرتبطة بهذا الموضوع ، ثم بسطنا الحديث حول مهام القائد التعبوية ، فذكرنا الأهم منها ، وفي هذا الجزء والذي يليه سنتحدث عن بعض المهام المعرفية المرتبطة بعمل القائد .
مهام معرفية : هذا النوع من المهام هي ما ينام القائد ويصحو وهو يفكر فيه ، إنه شغل ذهنه الشاغل ، ومحط تفكيره وتقليب رأيه ؛ هو وفريق عمله وضباط أركانه ، إنها مهام ينتج عنها تصور وفهم نظري يبنى عليه إجراءات تعبوية وعملية ، إن الخلل والقصور في هذه المهام المعرفية ، يعني خسائر في الأرواح ، وتلف في المعدات ، وتضييع للفرص ، وفتح لثغرات ينفذ منها العدو ليسدد الضربات . فما هي هذه المهام ؟ وكيف يمكن مقاربتها ؟ إن أهم هذه المهام المعرفية ما يلي :
- معرفة المهمة : إن أول ما يطلب من القائد معرفته هو المهمة التي سيقوم بها هو ومن تحت إمرته من قوات ، وستسفك دماؤهم وتزهق أرواحهم في سبيلها ، إنها ذاك الأمر المتصور ذهنياً المتجسد مادياً الذي تُحشد كامل القدرات في سبيل الوصول له . إنها أمرٌ لا يحتمل المجاملة ولا التظاهر بالقدرة مع عدمها على القيام به ، إنها جزء من كل ، وقطعة ( بازل ) من مجموعة قطع ، قد لايفهم أو يعي حاملها الشكل الكلي النهائي لها ، ولكن من يقود هذه القوات لابد له أن يكون واعياً وفاهم ورائياً لمجمل اللوحة الكلية المشارك في رسمها . وهنا على القائد أن يكون لديه فهم واضح ومعرفة كلية بــــــــ :
- المهمة الصريحة : ما هي المهمة الصريحة المطلوبة منه من قبل التشكيل الأعلى أو المستوى القيادي الأعلى الذي يتبع له ؟ هل هي من ضمن قدراته وإمكاناته ؟ على القائد أن يفهم بشكل دقيق غير حمّال لأوجه للمهمة الصريحة التي حولت له من المستوى الأعلى منه ، دون مواربة أو حياء يدفع على تحمل ما هو خارج القدرة والاستطاعة .
- المهمة الاستنتاجية : كما على القائد أن يكون لديه القدرة على اشتقاق واستنتاج مهام تشكيلاته وهيكلياته الإدارية من تلك المهمة الكبرى التي فوضت له ، وعلى عمليات الاشتقاق تلك أن تكون في السياق العام لتنفيذ المهمة الكبرى الرئيسية ، بحيث يكمل بعض تلك المهام بعضها الآخر في صورة متناسقة ، يرى الجميع أنهم مشاركون في الإنجاز ، شركاء في تحقيق الأهداف .وفي سياق تنفيذ هذه المهمة ؛ على القائد أن يراعي الأصول التالية التي تساعد في انجاز المهمة بشكل سريع وآمن وبأقل الخسائر والأكلاف :
- أصل الهدف : على القائد أن لا تغيب عيناه عن أصل الهدف الذي شغل قدراته من أجل تحقيقه ، وأن لا يلتفت إلى الأهداف الجانبية التي قد ينشرها أمامه عدوه من أجل استنزاف قدراته وحرفه عن مسار عمله ، وهنا عليه أيضاً أن يُقَدّر الكيفية التي سيصل بها إلى هذا الهدف ، هل سيصل له من الحركة الأولى ؟ أم أنه بحاجة إلى تقسيم المسير إلى مراحل ؟ فإن كان لا بد من مرحلة عمله ؛ فمن أين وكيف تبدأ كل مرحلة ؟ وكيف ومتى ستنتهي؟
- أصل الحشد : كما يجب عليه أن يحشد كامل قدراته وكل ما بين يديه من مقدرات من أجل تحقيق الهدف المطلوب الوصول له ، وهنا قد يتبادر للذهن أن الحشد مقصود به الحشد الناري والقتالي ؛ وهذا صحيح ؛ ولكن مفهومنا للحشد مضافاً للحشد الناري والقتالي ؛ حشد أفضل القيادات ، وأفضل الكوادر ، وأفضل المعدات وأفضل الأفكار لتحقيق الهدف وإنجازه .
- أصل وحدة القيادة : فمن متطلبات حسن القيادة والسيطرة ؛ وحدة القيادة وتركيزها لدى جهة واحدة مخولة إعمال السلطة والصلاحيات لتنفيذ الأهداف ، وقد يفوض القائد بعض صلاحياته لبعض مرؤوسيه لتسهيل العمليات التعبوية ، وهنا عليه أن يحدد أين تنتهي صلاحياتهم لتبدأ صلاحياته ، وعليه أن يولي فريق عمله كامل الثقة عند تفويضهم الصلاحيات ، ويبقي عين المراقبة والاشراف على حسن التنفيذ حاضرة غير غائبة ، متذكراً أنه هو وحده من يتحمل مسؤولية النجاح أو الفشل .
- أصل المرونة : فطرق تحقيق الأهداف ليست خطاً مستقيماً يرسم بين نقطتين ـــــ وإن بدا على الخرائط أنه كذلك ــــ إنما هو مسير قد يعتريه التعرج والتلوي أثناء التنفيذ ، ولكنه تعرجٌ وتلوٍ لا ينحرف عن أصل الهدف والاتجاه العام للعملية التعبوية ، وليس من معنى المرونة أن ينتقل القائد أو التشكيل من هدف إلى هدف ومن جغرافيا إلى جغرافيا ، انتقالاً غير مبرر ولا معللٍ تعبوياً في السياق العام للعمليات.
- أصل التركيز : كما على القائد أن يعرف نقاط ضعف عدوه ومراكز ثقله ونقاط ارتكازه ، فيحشد كامل طاقته وكل قوته لضرب مراكز الثقل ونقاط الارتكاز تلك ، مستغلاً نقاط الضعف التي لا بد أنها موجودة في مكان ما ، وإن خفيت عن الأعين ، ولكن ببذل الجهد وحشد القوة والاستثمار الجيد لمصادر المعلومات ؛ ستظهر نقاط الضعف تلك جلية واضحة للعيان .
- أصل الاقتصاد في القوى : فالمعركة قد تطول ، ومصادر الإمداد البشري والمادي قد تبعد مسافاتها ، وقد تعيقها ظروف الميدان ، فلا تصل في مواعيدها ، وقد تصل ناقصة الكم قليلة النوع ، لذلك لا بد للقائد من أن يراعي أصل الاقتصاد في قواته وموارده ، ولا يحثوها حثواً ، وإنما يخرج منها ما لزم بالقدر المطلوب دون إفراط ولا تفريط ، وليس المقصود من الاقتصاد بالقوة ـــ البشرية والمادية ــ الضن بها عند الحاجة لها تحت ذريعة المحافظة عليها والخوف على مصيرها ، فهذه القوة ما أعدت إلا لمثل هذا اليوم وهذه الساعات ، فإن لم يُتَصرف فيها عند الحاجة لها ؛ قد لا يتسنى لمالكها تشغيلها لاحقاً .
- تخصيص القدرة : ومن المهام المطلوب من القائد معرفة كيفية إدارتها ، ما يعرف بتخصيص القدرات ، فكما قلنا سابقاً ليس هناك قائد مهما علا شأنه ، مطلق القدرة وتتوفر لديه كامل القدرات المطلوبة لتنفيذ مهامه ، لذلك عليه أن يعرف ماهي المعايير التي يتم بناءً عليها ترتيب الأولويات عند تنفيذ المهمات ، والتي ينبثق عنها تخصيص القدرات البشرية والمادية ، فتلحق هذه القدرات بالمهمة ذات الأولوية . واستطراداً فيما يعني القدرات ؛ لابد من الإشارة إلى أن القائد وفي مجال القدرات عليه أن يكون عارفاً ملماً بالتالي من الملاحظات :
- جوهر القدرة : عليه أن يلم بطبيعة القدرة المحولة له ومعرفة جوهرها ؛ فهل ما بين يده من القدرات فقط من النوع الخشن الصلب الذي يدمر ويسحق ويحيل الأهداف أثراً بعد عين ؟ أم أن لديه من القدرات الناعمة ما يمكنه من أن يحقق أهدافه بشكل آمن دون إراقة دماء أو تدمير ؟ وهنا تجب الإشارة إلى أن كل قطعة عسكرية مهما كان شكل تركيبها أو استعدادها ؛ تملك من القوة الناعمة ما يمكنها من تحقيق أهدافها أو بعضاً منها دون اللجوء إلى تشغيل كل ما تحت إمرتها من قدرات مادية و أدوات قتال ، فأخلاق منتسبيها وحسن سلوكهم مع المحيط وما يقال عن الخدمات التي قدموها عند دخولهم إلى مناطق محرررة وغيرها من الأمور ؛ كلها تعد من أدوات القوة الناعمة التي يمكن أن تستثمر في تحقيق الأهداف دون إراقة الدماء . كما أن على القائد أن يعرف متى يمزج بين القوة الخشنة والقوة الناعمة للحصول على مركب القوة الذكية التي أيضاً تساعد في تحقيق الأهداف بأقل الخسائر وأقصر الأزمنة ، وهذا ــ جوهر القوة ـــ بحث تفصيليٌ يطول الحديث حوله .
- كمّ القدرة المتوفر : ويلحق في معرفة جوهر القدرة ؛ معرفة كمّ القدرة المتوفر في الوقت الحالي ، وما يمكن أن يتم توفيره عند الحاجة ، والمكان الذي يمكن أن يتم توفير هذه القدرات منه ، والزمان المطلوب لوصول هذه القدرات ودمجها واستيعابها ضمن التشكيل لتصبح جزءاً من منظومة القتال التي تقع تحت إمرة هذا القائد لتنفيذ المهمة المناطة به.
- أين ستستخدم هذه القدرة : ومن الأمور المعرفية المرتبطة بالقدرة ؛ معرفة مكان استخدامها ، فما كل عنصر من عناصر القدرة قابل للاستخدام في كل مكان أو زمان ، فللقدرة محددات تحد من إمكانية استخدامها ؛ زماناً ومكاناً ، أو كنتيجة لإعمال السياسات والضوابط وقواعد الاشتباك . وإلمام القائد بهذه المعطيات يساعد على كسب البعد القانوني في المعركة وإظهار عدالتها ويضمن حسن سيرها .
- متى ستستخدم هذه القدرة : كما يجب على القائد أن يعرف في نطاق القدرة ؛ متى ستستخدم هذه القدرة ، فالتعجل في دفع بعض القدرات والكشف عنها قد يفقدها قيمتها القتالية أو أثرها النفسي ، فالزج بكامل القدرات الموضوعة تحت المسؤولية في المعركة من بدايتها ، يفقد القائد ومرؤوسيه ميزة المناورة وروافع الضغط الممكن استخدامها ميدانياً في الضغط على جبهة العدو لتحصيل أكبر مكتسبات ميدانية وتعبوية منه .
- كيف ستستخدم : كما يجب على القائد معرفة كيف ستستخدم هذه القدرات ؟ ما هو نوع المناورة والفعل الميداني الذي ستستخدم فيه هذه القدرات لتحصيل أفضل النتائج عند تنفيذ المهمات . هل سيدفع بهذه القدرات بشكل جبهي ضد قوات العدو ؟ أم أن مناورة الخرق هي أفضل مناورة يمكن من خلالها تحقيق أصل الهدف من المهمة ؟ أم أن الالتفاف على العدو وإحاطة قواته من جهة أو جهتين كفيلٌ بأن يقضي على مقاومته ومن ثم التسليم بما نريد وإخلاء الميدان أمام قواتنا فتصل إلى مبتغاها وتنجز مهمتها ؟
نكتفي بهذا القدر ، على أن نستكمل البحث في الجزء الخامس والأخير من هذه السلسلة .
Facebook Comments