أن تَمتَلِك الجغرافيا !!
عبد الله أمين الخبير العسكري والإستراتيجي
ماذا يعني أن تملك الجغرافيا ؟ ماذا يعني أن تفقد السيطرة على الجغرافيا ؟ أسئلة محورية يقوم عليها كل شيء ، فأن تفقد الجغرافيا يعني أن تفقد كل شيء ، وأن تمتلكها يعني أن تمتلك كل شيء ، أليست الدول تنهار عندما تفقد سيطرتها على جغرافيتها ؟ أليست الجيوش تحسم المعارك عندما تسيطر أو تحتل المواقع الجغرافية الاستراتيجية في منطقة عملياتها أو مناطق مسؤوليتها ؟ نعم ؛ إنها الجغرافيا التي تفرض نفسها على المشهد وهي التي تعطي قيمة للدول إن ملكت منها ما هو مميز ، وهي التي ــ وغيرها من العوامل الأخرى ولكنها هي الحاكمة ــ تجعل للشعب مكاناً بين الأمم إن حباه الله بالأفضل منها . إن هذه المقالة تناقش دور الجغرافيا كأهم ركيزة من ركائز مسار بناء القوات للدول والحركات وهي ــ المقالة ــ قائمة على فرضية أن الدولة أو الحركة إن هي ملكت الجغرافيا أو سيطرت عليها ؛ فقد ملكت ما يمكن أن تنطلق منه وبه وفيه في اتجاه الاستقلال السياسي والذاتي وحرية الرأي وتقرير المصير . وسنناقش هذه الفرضية إنطلاقاً من ثلاثة نماذج في التاريخ الحديث لحركات مقاومة وكيف كان أثر الجغرافيا عليها وعلى قرارها ، وكيف كانت الجغرافيا هي العامل الرئيسي في تكوين مصيرها وامتلاك قرارها الذاتي ، أو كيف كان فقدانها للجغرافيا العامل الأهم في اندثارها ، أو على أقل تقدير جعلها على هامش التاريخ وغير صاحبة قرار ، حتى لو تسمت بما تسمت به ونعتت بما تنعت به ، ثم سنأتي على ذكر النتائج المفصلية التي تنتج من امتلاك الجغرافيا أو السيطرة عليها . أما عن النماذج فإننا سنتطرق إلى نموذج م.ت.ف بكافة فصائلها ، ثم حركة طالبان الأفغانية ، ونختم بحركة المقاومة الإسلامية ( حماس ) قبل الحسم في عام 2007 وبعد الحسم والسيطرة على جغرافية غزة الحالية .
أولاً : تجربة منظمة التحرير الفلسطينية : لن نخوض كثيراً التاريخ كون المقالة لا تتسع لسرد الجزئيات والتفاصيل ، لكننا سنسلط الضوء على أثر عدم إمتلاك أو سيطرة م.ت.ف على الجغرافيا وكيف أنها حرمتها من أن تجني ثمرة جهودها وإنجازاتها العسكرية ؛ فالمنظمة عندما بنت قدراتها القتالية في الأردن بعد حرب الكرامة عام 1969 ؛بنتها من فائض القوة التي اكتسبتها بعد النصر الذي احرز في تلك المعركة ، فبنت القواعد وأنشأت المعسكرات ، وعقدت الدورات وربت الكوادر والمقاتلين ، ولكنها لم تستطيع أن تشغل كل تلك القدرات بما يخدم أصل الهدف من عملها العسكري والقاضي بالاشتباك الحقيقي والفعلي مع العدو الإسرائيلي ، مما جعلها تراكم قدرات ، عندما لم تستطع أن تشغلها باتجاه الأرض المحتلة ؛ ارتدت على الداخل الأردني ــ لسنا في معرض تقييم تلك الفترة ـ فخاضت حرباً مع النظام للسيطرة على الجغرافيا انتهت بخروجها من الأردن إلى لبنان وخسارة أكبر جبهة ملاصقة لفلسطين المحتلة ، كان يمكن من خلالها الاشتباك مع هذا العدو الغاصب بشكل مؤثر وفاعل . ثم في لبنان تكررت نفس التجربة ، فقد راكمت المنظمة قدراتها ، المادية منها والبشرية ، ونشرتها على طول وعرض الجغرافيا اللبنانية بدءاً من بيروت وانتهاءً بالقرى اللبنانية المحاذية لفلسطين المحتلة جنوباً ، ولكنها لم تستطيع أن تشغل هذه القدرات بالطريقة المثلى كونها كانت محكومة بسقف القرار اللبناني في ذلك الحين ، واكتفت بالاشتباك مع العدو من تلك الجغرافيا بما يسمح به الموقف وما لا يثير عليها الداخل اللبناني كونها ضيف عليه ، فتآكلت طاقة تلك القدرات إلى أقل مستوى متصور ، إلى أن جاء الاجتياح عام 1982 فأجبرت م.ت.ف على مغادرة تلك الجغرافيا والتشتت في أصقاع الأرض ، وتلاشت جميع القدرات التي روكمت على مدار سنين في تلك الجغرافيا التي لا تملكها ملكية حقيقية كصاحبة لها ومتحكمة بها . هذا باختصار شديد ، فعدم امتلاك الجغرافيا ملكية حقيقة ؛ منع وحرم وقيد القرار السياسي من تشغيل القدرات العسكرية عندما تطلب الموقف ذلك .
ثانياً : حركة طالبان : هذه الحركة عندما بدأت توسعها وانتشارها في الأراضي الأفغانية ، كانت لا تسيطر على شيء من تلك الجغرافيا المتسعة وصعبة التضاريس ، غير أنها كانت تملك السيطرة على بعض المدارس الشرعية والمساجد المنتشرة في تلك البلاد ، فكونت منها رؤوس جسور متفرقة وأخذت تقضم الجغرافيا المحيطة بتلك المقرات شيئاً فشيئاً ، إلى أن سيطرت على كامل التراب الأفغاني في ظرف ثلاث سنين ــ 1994 ــ 1997 ــ بعد أن وصلت تلك الجزر الجغرافية بعضها ببعض وأرست دعائم حكمها الذي امتد إلى 2001 حيث سقطت إمارتها بعد الغزو الأمريكي لأفغانستان على أثر أحداث سبتمر 2001 ، فكان لسيطرتها الأولى على الجغرافيا الأثر الكبير في نشوئها وتأسيس حكمها ، وغابت عن المشهد عندما فقدت الجغرفيا ، إلا أنها عادت ففرضت نفسها على المشهد بعد أن احتل الأمريكان البلاد ، فخاضت الحركة ــ حركة طالبان ــ حرب عصابات ضد هذا المحتل ، أسفرت عن إعادة بسط سيطرتها على نسبة لا تقل عن 50% من الجغرافيا الأفغانية ، فأصبحت الند الوحيد والمحاور الرئيسي للأمريكان ، تفرض عليه شروطها إنطلاقاً من سيطرتها على الجغرافيا ، مجبرة هذا المحتل على أخذ قرار الانسحاب من بلدهم في القادم من الأيام . إذا هي الجغرافيا التي رفعت الإسم عندما مُلكت ، وغيبت الجسم عندما فقدت ، ثم نفثت فيه الروح عندما أعيدت السيطرة عليها .
ثالثا ً: حركة المقاومة الإسلامية حماس : بقيت حركة حماس غير مسيطرة على أرض أو جغرافيا إلى أن قررت القيام بعملية (حسم ) المشهد الميداني الذي أرادت فتح أن تسيطر عليه بعد أن خسرت الانتخابات التشريعية في عام 2006 (فسلمت) فتح بشكل جزئي السلطة وما يتعلق بها من مظاهر أمنية وسياسية واقتصادية لحماس ، ولكنها بقيت تسيطر على الأرض بما تملك من سلاح وأدوات فعل ميدانية ، فنغصت على الحركة فوزها وسلبت منها القدرة على إنزال برنامجها على الأرض ، دون أن ننسى أن م.ت.ف وعلى رأسها فتح قبل الإنتخابات التشريعية مارست في حق حركة حماس كل ما يمكن أن يتصور من وسائل البطش والضغط والتضييق ، محاولة منعها من مراكمة القدرات المادية والبشرية من أجل خوض معركتها مع المحتل ، وبقي المشهد على ما هو عليه إلى أن فاض الكيل وطفح ؛ فاتُخذ قرار حسم المشهد والسيطرة على الأرض ، فكان ما كان ، وسيطرت الحركة على الجغرافيا وملكت قرارها وتخلصت من الضغوط والعقبات الداخلية ، وانطلقت مسرعة في مسار بناء القوات ، وتصميم خطة دفاعية عن تلك الجغرافيا ، منعت العدو من تحقيق أهدافه في أول حرب معها عام 2008 / 2009 ، وما كان أحد يتصور أن الحركة كانت لتكون قادرة على ذلك لولا فضل الله أولاً وآخراً ، ثم سيطرتها على الجغرافيا واستثمارها بالشكل المطلوب والمناسب ، ثم سارت في مسار بناء القدرات صعوداً إلى أن وصلنا إلى ما نحن في حضرته الآن من معركة للدفاع عن القدس والمقدسات ، فأشهرت حماس من غزة سيف القدس الذي بترت فيه يد المحتل ومنعته من تحقيق أهدافه ـــ من المبكر تقييم المشهد كاملاً كون الحرب لم تضع أوزارها بعد ــ ، فكان للجغرافيا المسيطر عليها الدور الكبير في تحقيق هذا الهدف ، ولو كانت الجغرافيا خارج السيطرة ، لما رأينا ما رأينا سابقاً ، وما شاهدنا ما نشاهد حاضراً .
إذاً إنها الجغرافيا المناسبة والمسيطر عليها ، عندما تلتقي مع القدرات البشرية مالكة الحرية والقرار ، تفعل فعلها وتُظهر نفسها ، فماذا يعني أن تمتلك الجغرافيا ــ نتحدث هنا عن الشق العسكري فقط ــ ؟ إن امتلاكك للجغرافيا يعني :
- أن تملك قرار البدء بالعمل ومسار بناء القوة : إن أول آثار امتلاك السيطرة على الجغرافيا هو : امتلاك القدرة على اتخاذ القرار وتحمل أكلافه ببدء العمل ومراكمة القدرة في مسار لبناء قوات يراعي الواقع ، متطلعاً للمستقبل ، موائماً تطوره مع تطور عدوه والتهديد الناتج عنه . فعدم السيطرة على الجغرافيا من أهم عوائق اتخاذ مثل هذا القرار ، فالعقل والمنطق يقولان : أن لا تُراكم قدرات ولا تمتلك أملاك في بلد لست فيها مواطن كامل المواطنة ، كونك يمكن أن تفقد كل ما راكمت واستثمرت بجرة قلم من صاحب الجغرافيا ومالك الأرض .
- أن تمتلك قرار تطوير ومراكمة القدرة : وحيث أن سير القدرات في مسار المراكمة والتعاظم يتناسب بشكل طردي مع تعاظم وتغير التهديد الذي تواجهه والمخاطر الناتجية عنه ،لذلك فإن ما هو أهم من اصدار قرار امتلاكها ؛ قرار السير في مراكمتها، بشرياً ومادياً وتطويرها وجعلها في وضع فني وتشغيلي ـــ إقرا جاهزية ــ ما يمكنها من ردع التهديد إبتداءً أو منعه والتقليل من آثاره انتهاءً ، الأمر غير المتصور في حال فقدان السيطرة على الجغرافيا .
- أن تمتلك قرار تشغيل و توقيف هذه القدرة بعيداً عن الضغوط الخارجية : وحيث أن القدرة على تشغيل القدرة بحرية وبدون معوقات وضمن رؤية واضحة تهدف إلى تأمين المصالح والدفاع عنها بعيداً عن أي ضغوط قد تؤدي إلى (إخصاء) هذه القدرات أو التقليل من فاعليتها ، هو أهم من بنائها أصلاً ؛ كان لا بد من أن يُسيطر على الجغرافيا التي يراد أن تشغّل عليها وفيها تلك القدرات ، كون تحقيق هذا الهدف ــ التشغيل البعيد عن الضغوط الخارجية ــ غير متصور في ظل فقدان السيطرة على هذه الجغرافيا .
- أن تملك القدرة على تحديد نوع ومقدار الأثر الذي تريد أن تجنيه من تشغيل هذه القدرة : حيث أن تشغيل هذه القدرات الهدف منه تحقيق أهداف وتأمين مصالح والدفاع عنها ؛ فإن إمتلاك الجهة المشغلة لهذه القدات السيطرة على الجغرافيا ؛ يمكنها من استثمار جهودها وتضحياتها بأفضل شكل ممكن وعلى أحسن حال متصور ، فمجرد فقدان السيطرة على الجغرافيا أو بعض منها ؛ يعني ضرورة التواضع عند طلب الاستثمار أو جني الثمار .
كان هذا سرداً سريعاً جداً لأثر امتلاك الدولة أو الكيان السياسي السيطرة على الجغرافيا ، ولكن حتى تكون هذه الجغرافيا على ما نريد ، وتلعب دورها على أكمل وجه ؛ فإن على مالكها أن يؤمن التالي من الظروف الذاتية والموضوعية :
- جهة صاحبة قرار قادرة على تحمل الأكلاف : أن تكون الجهة المسيطرة على هذه الجغرافيا صاحبة قرار قادرة على تحمل أكلافه في السير في مسار بناء القوات عليها ، ولنا في حركة حماس و (م.ت.ف) أكبر مثال ، فالأولى سيطرت على جغرافية غزة التي لا تزيد نسبتها عن 1.33 من أصل مساحة فلسطين التاريخيه ، فحولتها إلى قلعة حصينة وجوزة يصعب كسرها ، والثانية ــ م.ت.ف ــ (تسيطر) على 21 % من مساحة فلسطين التاريخية وامتلكت وتمتلك فيها قدرات لو فعلت لأرقت المحتل ، ولكنها ( مخصية ) بقرارات سياسية .
- امتلاك هذه الجغرافيا صلة جغرافية مع محيط آمن نسبياً : كما أن من الأمور المساعدة على تحويل الجغرافيا المسيطر عليها إلى جغرافيا صعبة المنال مرهوبة الجانب ؛ اتصالها الجغرافي مع محيط آمن نسبياً ، تنفتح عليه وتؤمن ما يمكن من متطلبات الصمود والقوة منه أو من خلاله .
- ارتباط هذه الجغرافيا بجغرافيات قادرة على تأمين الدعم والإسناد عند الحاجة : وحيث أنه لا يمكن أن توجد جغرافيا غير محتاجة إلى جغرافيات أخرى ، تساندها وتدعمها وتوفر لها ما لا تملكه أو تعجز عن تأمينه ، لذلك عُد امتلاك صلات وعلاقات مع الجغرافيات الأخرى عاملاً من العوامل التي تساعد في صمود وقوة أي جغرافيا تريد أن يكون لها شأن وتجد لنفسها موقعاً تحت الشمس .
- توفير متطلبات الصمود لهذه الجغرافيا : إن الهدف مما قيل في النقطتين السابقتين إنما هو العمل على تأمين ما تحتاجه هذه الجغرافيا وأهلها من متطلبات الصمود وأسباب الحياة ، فالجغرافيا لا تعدو أن تكون جسداً بلا روح إن لم يوفر لها أسباب الحياة من بنىً تحتية ومشاريع صناعية وخدمات حياتية ، بالقدر الذي يؤمن مقومات الثبات والحياة ، ولا يحول هذه المنشآت وتلك البنى إلى مفاصل يمكن الضغط من خلالها على حركة المقاومة أو الدولة ، وهنا نتحدث عن دولة تنشد الاستقلال ثم الاستقرار ، أو حركة تحرر ما زالت في طور التحرير ، تخوض غماره وتكتوي بناره .
- أن لا تُحمّل هذه الجغرافيا فوق طاقتها ولا يستعجل قطف ثمارها قبل نضوجها : وهنا لابد من التنبه إلى عدم تحميل هذه الجغرافيا فوق طاقتها وتجشيمها عناء مالا تقدر على حمله ، فيجب التدرج في تحمل الأكلاف والتصدي للمهمات ، وعدم استعجال قطف ثمار السيطرة عليها ــ الجغرافيا ــ قبل أوانها ، وما في هذا من حرج ، فلم يكلف الله نفساً فضلاً عن جغرافيا فوق طاقتها ، وإنما الحمل على قدر الطاقة ، ومن استعجل الأمر قبل أوانه عوقب بحرمانه .
كان هذا في عجالة سريعة فيما يعني أن تملك جهة ما الجغرافيا ، على أمل أن تكون هذه المقالة محرضاً لكثير من البحث والتدقيق الذي لا تتسع له هذه المقالة ، ونختم بما نحن في حضرته من مشهد وموقف في غزة العزة ، لنسأل سؤال ونجيب بجواب ، أما السؤال : هل كان يتصور أحد أن غزة كانت لتنهض بعبء الدفاع عن نفسها في الحروب السابقة ، ثم إشهار سيفها دفاعاً عن القدس ، لولا أن هناك ثلة مجاهدة صاحبة قرار قادرة على تحمل أكلافه ، عزمت أمرها على السيطرة على جغرافيتها خدمة لقضيتها فرأينا ما رأينا ؟ وأما الجواب : أيم الله لا (كبيرة ) .
Facebook Comments