أخبارمقالات إستراتيجية

من التهديد المحدود إلى التحدي الاستراتيجي

ترجمة الهدهد

إن تسلسل الهجمات لا يتوقف، وحملة الهجمات الفلسطينية التي بدأت في مارس 2022 تتوسع وتنتشر، وتتبنى حماس المسؤولية عن بعض الهجمات، وتشجع وتساعد آخرين بالمال والسلاح، ولا يتطلب منها دفع أي ثمن مقابل ذلك.

إلى جانب عمليات الدهس وإطلاق النار على طرقات السفر وقتل المستوطنين في الضفة الغربية وداخل الكيان”، تعمل حماس على تطوير القدرات والبنية التحتية لإطلاق الصواريخ من جنين باتجاه مستوطنات جلبوع وشمال الكيان.

الصواريخ لا تزال بدائية وجميع محاولات إطلاقها باءت بالفشل حتى الآن، لكن إدخال الصواريخ كجزء من مستودع الأسلحة في شمالي الضفة الغربية قد يتطور إلى تهديد كبير، إذا لم يتم التعامل معه بحزم من قبل الجهات المختصة.

كما تم إطلاق رشقة من 34 صاروخاً من لبنان باتجاه الكيان، بداية أبريل/نيسان 2023، وبحسب المتحدث باسم “الجيش الإسرائيلي” فإن عملية إطلاق النار نفذتها “حركة حماس الفلسطينية، وغني عن القول أن عملية إطلاق النار هذه مرت دون أي رد فعل “إسرائيلي” ذا مغزى.

وعلى خلفية هذه الهجمات، يدعو نشطاء حماس الآن (سبتمبر 2023) سكان غزة إلى العودة للمشاركة في مسيرات العودة على طول الحدود، بعد أن بدأ تهيئة خمسة مخيمات بغرض تنظيم المسيرات والمظاهرات على طول السياج الحدودي مع الكيان، على ما يبدو على خلفية الصعوبات الاقتصادية والضغوط الداخلية التي تعيشها حركة حماس في قطاع غزة.

في الواقع، قطاع غزة هو المنطقة الوحيدة التي تحاول فيها حماس الحفاظ على الهدوء النسبي، في حين أن “حكومات إسرائيل” في كل السنوات الماضية خلقت مساحة مريحة للمنظمة من أجل تحقيق هدفين، إعادة اعمار قطاع غزة وتحسين الوضع الاقتصادي (بما في ذلك من خلال خروج حوالي 20 ألف عامل فلسطيني للعمل في إسرائيل) مقابل الهدوء في غزة.

تعمل الحركة بتعزيز قوتها العسكرية، وضمن ذلك اختبار الصواريخ الحديثة والأكثر خطورة من حيث المدى والدقة والرأس الحربي، وفي الوقت الذي تحافظ فيه حماس على الهدوء في قطاع غزة، تعمل بجهد ممنهج لتطوير وتشغيل البنية التحتية في الضفة الغربية، كما أن حماس تشجع الهجمات حتى من قبل الفلسطينيين الذين ليسوا في صفوفها، من خلال دفع الأموال وتوفير الأسلحة.

كما تعمل حماس بشكل رئيسي من خلال صالح العاروري، الذي يعيش في بيروت ويعمل تحت أعين حزب الله وبتشجيع ودعم من إيران، على إنشاء البنية التحتية للمقاومة في جنوب لبنان وتجهيز جبهة أخرى نشطة ضد “إسرائيل”، كما تشارك قيادة حماس في قطاع غزة وخارجه في جهود تصعيد الاوضاع في المسجد الأقصى والتسلل إلى الفلسطينيين في الداخل بهدف إعداد جبهة داخلية داخل الكيان.

تصرفات حماس ونواياها علنية لا تخفى على أحد

يعلن قادة حماس عن نشاطهم ويفتخرون به، بينما يستفزون “إسرائيل” ويهددونها، مستوى الثقة بالنفس لدى القادة يرتفع، كل ذلك بسبب تقديرهم بأن “إسرائيل” لن تتحرك رداً على هذا النشاط ضد قيادة المنظمة في غزة أو قيادة المنظمة الخارجية، يبدو هذا الافتراض من جانب حماس دقيقًا تمامًا، ومساحة الراحة التي تحافظ عليها “إسرائيل” من خلال سلوكها تسمح لحماس بدرجات أعلى من الحرية.

بينما يبدو في الوقت نفسه، على الأقل في نظر حماس وحزب الله، أن “التفضيل الإسرائيلي” هو الاحتواء، علاوة على ذلك، فإن الأزمة الداخلية التي يعيشها الكيان تنظر إليها حماس وحزب الله وإيران كمؤشر على عملية التفكك المتوقعة لـ “إسرائيل”، ما يجعل الثلاثة أقرب إلى الفرصة السانحة لهجوم متعدد الجبهات على “إسرائيل” يؤدي إلى انهيارها.

نشاط حماس في لبنان مناسب لجميع أعداء “إسرائيل”، فهو يناسب حماس لأنه يخلق تفريق أمام قيادة حماس في قطاع غزة، حيث يتم الحفاظ على الهدوء

وهو أمر مريح لحزب الله في لبنان لأنه بهذه الطريقة يستمر الاحتكاك المستمر مع “إسرائيل” مع مساحة لديه للإنكار، ويبدو أن هذا يناسب “إسرائيل” أيضًا، حيث أن الهدوء في قطاع غزة مستمر ولا يوجد ضغط شعبي للعمل ضد حماس في غزة، وخلال التهدئة في غزة يمكن لـ “إسرائيل” أن تستثمر في الاستعداد للحرب في الساحة الشمالية، وفي بناء القوة لمواجهة محتملة مع إيران، وفي الأشهر الأخيرة، في تعزيز القوات في الضفة الغربية.

لقد وجدت حماس نموذجاً مثالياً، يعتمد على خمسة ساحات عمل تتيح لها المرونة والمناورة: غزة، الضفة الغربية، القدس، فلسطينيي ،48 ولبنان، مع التفريق أو التمييز بين قطاع غزة وساحات المقاومة الأخرى النشطة، وخاصة الضفة الغربية ولبنان.

ويركز التنظيم على الهجمات في الضفة الغربية، مما يساهم في زعزعة استقرار السلطة الفلسطينية، حيث تواجه الأخيرة صعوبة في التعامل مع حماس وتفكيك البنية التحتية المسلحة للمنظمة، وأي جهد من هذا القبيل من جانبها يؤدي إلى صدامات بين الأجهزة الأمنية الفلسطينية والشارع الفلسطيني، ويرسخ الانطباع بأنها تتعاون مع “الاحتلال الإسرائيلي”.

إن الصعوبة لدى الاجهزة الأمنية الفلسطينية يجبر “إسرائيل” على التحرك في كثير من الحالات من تلقاء نفسها من أجل إحباط الهجمات، وهو نشاط عملياتي مكثف، ما يزيد بالضرورة من مستوى الاحتكاك مع السكان المدنيين الفلسطينيين ويؤدي إلى زيادة حقيقية في عدد المعتقلين والمصابين والقتلى من الفلسطينيين، وتساعد هذه النتيجة حماس على ترسيخ نفسها كرأس حربة لروح المقاومة الفلسطينية المسلحة.

إن إنجاز حماس ثلاثة أضعاف: تنجح المنظمة في تغذية وتنمية روح المقاومة المسلحة ومساهمتها الرئيسية وهي تقود إلى تزايد مستمر في نطاق النشاطات المسلحة ضد “إسرائيل”، وفي الوقت نفسه تنجح حماس في زعزعة مكانة السلطة الفلسطينية، وتعزيز نفسها على حسابها، وترسيخ نفسها كبديل شرعي للحكم في نظر الجمهور الفلسطيني.

حماس، التي تدعمها إيران وحزب الله التابع لها لا تشبه حركة الجهاد الإسلامي الفلسطينية المدعومة من إيران، إن اعتماد حركة الجهاد الإسلامي على إيران هو اعتماد مطلق، وعلى عكس حماس، فهي لا ترى نفسها كبديل حاكم للسلطة الفلسطينية ولا تشعر بأي التزام أو مسؤولية تجاه السكان المحليين.

جوهرها هو منظمة مقاومة، وحقها في الوجود هو الكفاح المسلح ضد “إسرائيل”، وحماس ليست منظمة مقاومة فحسب، بل هي حركة أيديولوجية وسياسية واجتماعية، تطمح إلى قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية والسيطرة على الكيان الفلسطيني، لديها أجندة واضحة للغاية، وسيطرتها على المنطقة أهم بكثير، والأهم من ذلك أنها صاحبة السيادة في قطاع غزة.

صحيح أن حماس يمكن أن تصمد وتستمر في العمل حتى من دون مساعدة إيرانية، لكن التقارب بين القيادة الخارجية للمنظمة بقيادة العاروري وهنية، وإقامة العاروري في بيروت تحت رعاية وحماية نصر الله، يجعل من حماس تهديداً كبيراً وأكثر تعقيداً، فهي لم تعد كياناً محصوراً ومحدوداً بمنطقة قطاع غزة فقط، إن وجودها ونفوذها في مناطق أخرى وعمق التعاون مع إيران وحزب الله يجعل من حماس خصماً أكثر خطورة، وأي مواجهة معها قد تؤدي إلى حرب متعددة الساحات.

حماس وحزب الله وإيران يدركون ذلك، ولذلك يواصلون رعاية حماس، بينما تكون “إسرائيل” منشغلة بمشاكلها في الداخل، ويُنظر إلى جيشها وقوتها العسكرية على أنها ضعيفة وفي تراجع مستمر، ويُنظر إلى حكومتها على أنها تتمتع بحرية عمل محدودة، وهو ربط يخدم الفكرة المنظمة لحرب الاستنزاف ضد “إسرائيل”، انطلاقاً من النظر اليها كمجتمع غربي مدلل محدود القدرة على الصمود في نظر محور المقاومة، لذلك، فإن الربط الذي يخدم منطق الاستنزاف والقدرة على العمل من عدة جبهات، يصبح تحدياً استراتيجياً ذا إمكانات متفجرة وخطورة عالية بشكل خاص.

هذا التقييم يتطلب تغييراً “إسرائيلياً” فيما يتعلق بغزة، إن الحفاظ على قوة حماس في غزة كعنصر ضروري في التفريق بين قطاع غزة والضفة الغربية والسلطة الفلسطينية كان “مصلحة إسرائيلية” منذ سنوات عديدة، كان منطلق مفهوم التمايز أو التفريق هو حصر نفوذ حماس في منطقة قطاع غزة، وخلق مساحة أكبر للمناورة السياسية في مواجهة السلطة الفلسطينية.

في هذه الحالة، من غير المرجح أن تدفع “إسرائيل” الثمن الكامل للتوصل إلى اتفاق مع نصف الشعب الفلسطيني أو مع دولة فلسطينية توجد فيها منطقة متمردة تعرض الدولة الفلسطينية للخطر.

لكن يبدو أن سياسة التفريق قد استنفدت جدواها، إن الأثمان التي يدفعها “الإسرائيليين” بسبب توالي الهجمات والتصعيد في الضفة الغربية باهظة للغاية عندما تصبح حماس محوراً مركزياً في معركة متعددة الجبهات ضد “إسرائيل” فهي تصبح تهديداً استراتيجيا، لم تعد “إسرائيل” قادرة على قبول المعادلة القائمة مع حماس، وسيتعين عليها التحرك بسرعة لتغييرها.

المصدر: معهد القدس للاستراتيجية والأمن

Facebook Comments

زر الذهاب إلى الأعلى